عن تراجُع الولاء للأسد في الساحل السوري
نشرت "مبادرة الإصلاح العربي"، وهي مؤسّسة بحثية مقرّها في باريس، ورقةً بعنوان "مقاربة أوليّة للمظاهر الاحتجاجيّة في طرطوس ومستقبلها"، للباحث السوري، أليمار لاذقاني، تتناول العوامل التي تدفع (وتكبح) احتجاجات السكان، في المحافظة الساحلية الواقعة تحت سيطرة النظام، و"كيف تعاملت سلطة الأسد مع الاحتجاجات التي جرت، والسبل التي اتّبعتها لقطع الطريق على إمكانية حصول أخرى". فضلاً عن "رسم صورة أوضح حول طبيعة العلاقة بين النظام وسكان محافظة طرطوس في ظل تطورات ما بعد الثورة"، وهي المصنّفة من أشدّ المناطق ولاءً للأسد، ليس لتركيبتها ذات الغالبية العلوية فحسب، بل لأنّ نحو 50% من مقاتلي النظام الذين سقطوا في المعارك، ينحدرون منها.
أشارت الورقة إلى محاولات نشطاء علويين، منذ بدايات الثورة، "إنشاء تنظيماتٍ ثائرة في الساحل السوري، مثل حركة نحل، التي هدفت حينها إلى كسر هيبة النظام والحضّ على الاندماج في الثورة"، فلوحقت بشدّة، وقضى بعض أفرادها تحت التعذيب. و"حركة الشباب السوري الثائر"، ونشاطات معارضين علويين، انضموا سرّاً إلى بعض تنسيقيات الثورة، وشاركوا في تظاهرات. كما تضمّنت معلوماتٍ تفصيليةً عن أحداث احتجاجية صريحة، قام بها علويون في طرطوس وريفها في فترات مختلفة، شهد بعضُها صداماتٍ عنيفة مع ممثلي النظام. وكيف أصبح معظم الشبّان "مشاريع مهاجرين هرباً من التجنيد والموت والفقر"، بدعمٍ من الأهالي، "يصل إلى تشجيعهم على ترك السلاح والسعي الحثيث للسفر إلى أي بلدٍ يقيهم مدّة الخدمة العسكريّة الطويلة والفقر الشديد وانعدام المستقبل". وخلصت الورقة إلى أنّ استمرار التدهور في الوضع المعيشي للسكان، يزيد من فرص "نشوب احتجاجات ذات مطالب خدميّة أو معيشيّة، قد تتطوّر إلى مطالب سياسيّة وطنيّة، لكنّها ستبقى هشّة وضعيفة أمام السلطة المنظّمة والقوية".
من اللافت غياب أنباء هذه الوقائع وما يشبهها، أو تغييبها شبه التام عن وسائل إعلام المعارضة عموماً. ويفتقر التطرّق إليها، على قلّته، إلى المقاربة السياسية، حيث يغلب عليه أسلوب السخرية والتشفّي، علماً أنّها تعكس جوانب من تغيّراتٍ عميقةٍ طاولت البيئات الموصوفة بالموالية، لا سيما في أوساط العلويين، وتكشف عن درجةٍ غير مسبوقة من التوتّر والاحتقان في العلاقة بينهم وبين النّظام، الذي استخدم شبّانهم وقوداً في معركته لسحق الثورة والحفاظ على سلطته. ربّما تعود طريقة تعامل إعلاميي المعارضة مع التطوّرات هذه إلى الشرخ الطائفي، بعدما فعل فعله بقوّة في المجتمع السوري، قصداً وعن وعي، ضمن استراتيجية نظام الأسد للبقاء في السلطة، ومن خلال خطابٍ وسلوك فئاتٍ معارضة في سعيها إلى إسقاطه، حتى غدت "الهوية الطائفية" محدّداً أساساً في الاصطفاف السياسي.
عمَد نظام الأسد، منذ بداية الثورة، إلى تشكيل "رأيٍ عام" في أوساط الأقليات الدينية بوجه عام، والعلويّين على نحو خاص، مفاده بأنهم المستهدفون من هذه الثورة وليس النظام
تشمل هويّة الفرد عناصر مركّبة، منها الموروث والمكتَسَب، ويكمن الخطر في ما أطلق عليه أمين معلوف "الناحية المضلِّلة في الهوية"، حيث يُستعاض عن الهوية بعنصر ما منها (ديني أو مذهبي أو قومي ... إلخ)، مختزلاً الهوية كلّها ومعبّراً عنها. والمسألة ليست نظريةً أو شعوريةً فحسب، بل من شأنها التأثير في توجّهات الأفراد وخياراتهم وأدوارهم في الحياة العامّة. سيختلف سلوك المرء، على الأرجح، حين يعي ذاته ويعرّف هويته من موقع طبقي، مثلاً، عنه حين تكون الأولوية لانتمائه الديني أو الطائفي. وعلى ذلك، إمّا أن يتصرّف من موقعه مواطناً مستلَبَ الحقوق، ومفقراً بفعل نظام متسلّط، نهّاب وفاسد، فيبني موقفه منه وعلاقاته مع المواطنين الآخرين على ذلك الأساس، أو يتّخذ خياراتٍ سياسية تستند إلى الهوية الدينية والطائفية له ولهم، فينحاز إلى هذا الفريق أو ذاك، وفق ما تمليه "مصالح" متخيّلة، تفرضها "الناحية المضلّلة من الهوية".
عمَد نظام الأسد، منذ بداية الثورة، إلى تشكيل "رأيٍ عام" في أوساط الأقليات الدينية بوجه عام، والعلويّين على نحو خاص، عبر أدواته من مجموعات رجال الدين والوجهاء المحليين المرتبطة به، مفاده بأنهم المستهدفون من هذه الثورة وليس النظام، لاعتباراتٍ طائفيةٍ ومذهبية. وبالتالي، هم إذ يقفون ضدّ الثورة لا يفعلون دفاعاً عن الأسد، بل حمايةً لأنفسهم وأعراضهم ووجودهم، وقد ساعدَ النظامَ في إقناعهم بروزُ جماعاتٍ مسلّحةٍ تتبنّى نهجاً تكفيرياً، انتشرت أخبارها ومشاهد ممارساتها، على حساب الثورة الشعبية. وعادت مستشارة الأسد الخاصّة، لونا الشبل، لتكرّر الكلام نفسه بعد عشر سنوات، في سياق شرحها خطابَ قسَم رئيسها على شاشة التلفزيون السوري الرسمي، حين استنكرت تذمّرَ الشعب من الأوضاع العامة، ومطالَبتَه النظامَ بثمار "الصمود"، قائلةً إنّ أحداً لم يطلب منهم ذلك، بل "غريزة البقاء" هي التي دفعتهم إلى الصمود! فهل تدفع الغريزة نفسها الباقين على ولائهم إلى التحرّر من قبضة الأسد؟