في إرهاب الدولة
صورة "مسيرة الأعلام" التي نفذها مستوطنون متشددون في حرم المسجد الأقصى، ثالث أقدس الأماكن الإسلامية، تمثل النوع الآخر من الحروب التي تحاصر الأطفال وكبار السن، وتخلو من المشاعر، حين تنتهك حقوق السكان الأصليين في أرضهم وبيوتهم وأحيائهم وكل موروثهم الإنساني القيمي. شاهدنا رئيسي الحكومة، الحالي نفتالي بينت والسابق بنيامين نتنياهو، على الهواء مباشرة، في استعراض "عروض الشارع الاستيطاني". لا تحرّكهما، أو تمنعهما عدسات المصوّرين، أو احتجاجات العالم والوسطاء الإقليميين، من المضي مباشرة نحو الهدف الذي ينجز في مراحل متسارعة، مثل إنهاك الفلسطينيين، ومحاصرتهم في أماكنهم. كأنها الأراضي البعيدة، ثم قفزة حكومة بينت فوق الضغوط وموجة الهجمات من نتنياهو والفقدان المحتمل للأغلبية البرلمانية، والتحدّيات التي يواجهها الائتلاف الهشّ، من أجل الحفاظ على تماسكه، مع وجود احتمال حقيقي بالنسبة لمحللين لإجراء انتخابات مبكّرة في المستقبل القريب. الحاجة إلى مدّ العون لأعمال الحكومة غير مواجهة الضرر الذي يلحق بها، تطلّبت إحداث الضرر الذي يلحق بالفلسطينيين من خلال إبراز الطابع اليهودي للقدس، ذريعة لحشد القوى وإثارة الجدل الديني والتصعيد من مثل هجوم "الضباع"، وإغراق شوارع القدس بخلايا بشرية هجينة واعتقالات وسلوكيات من ألعاب السيرك والبهلونيات لا انتماء تاريخيا أو طبيعيا لها.
في تلك الصورة حرب إرهاب وفصل من العربدة الإسرائيلية، ومن حروب المستوطنين الجدد الذين ظهروا على الأرض. كأنها خلايا تتحرّك في مونتاج من فيلم سينمائي قديم بالأسود والأبيض، من دون تغيير في النص. صورة لا تُفهم إلا كأنها أفظع مأساة إنسانية يواجهها الفلسطينيون. هجمات متباعدة، مدعومة من الحكومة، لا يسمح للفلسطينيين بالخروج للتصدّي لها، وطلب منهم البقاء في منازلهم منعا للتعبير والاعتراض والتصويت. ليست القدس وحدها من تعرّضت للهجوم. العالم الذي شعر بالغضب كان من المنطقي أن يتساءل عن القيم السائدة في مجتمع إسرائيلي، يزعم الالتزام بقيم ديمقراطية، ويتصرّف بكثيرٍ مما يثير عناصر الاشمئزاز. تصرّفات شاذّة تستخدم أداة عبادة طقوسية. يمكن مقارنتها بهستيريا جماعية/ قبلية/ متخلفة/، تجري في أزقة القدس العتيقة.
المضمون الذي تمارسه إسرائيل واحد، بقدر ما يتضمّن عنفا ضد المدنيين، وتهديدا، واعتقالات، وقتلا بالرصاص..، تمارس أيضا مخالفات سياسية، وقانونية
تواجه فلسطين إرهاب الدولة. تعريف الإرهاب الدولي في المعاجم والمكتبات لم يعد كافيا. ما يجري في فلسطين يتجاوز الضوابط القانونية الدولية الملتزمة بمكافحة الإرهاب. فكيف إذا كانت الدولة، بوصفها مؤسسة قانونية، هي نفسها من تمارس هذه الجريمة قانونا وفعلا؟ فإسرائيل خارجة عن النظام العالمي الملزم بمكافحة الإرهاب. وقد تمثل هذا النظام بقرار مجلس الأمن 1373 الذي صدر في 28/9/2001، بالاستناد إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. هذا في وقتٍ تقوم فيه إسرائيل بحملات تطبيع سياسية واقتصادية وتجارية مع بلدان عربية عديدة! وتسعى من خلالها إلى تغيير صورتها في المنطقة. كيف ذلك مع موجاتٍ مضللّة، واقتحاماتٍ بربريةٍ لأسوار الحرم القدسي؟ ظهر أن كل إسرائيل في سلة واحدة، من دون تمييز بين الديني والقومي والسياسي والقانوني. تنتهك القانون الدولي بشكل مزدوج، سيما المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، ما يطرح أسئلة بشأن دولة إسرائيل ومدى علاقتها بمسألة الإرهاب الدولي، و"ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينقص من الحق الطبيعي للدول، فرادى وجماعات، من الدفاع عن نفسها"، أي حق الفلسطينيين في الدفاع عن النفس، وهم أصحاب الأرض، ما يشكّل حقا أصيلا وذاتيا غير قابل للجدل ولا للشروط.
ما عاد في الإمكان التمييز في حالة إسرائيل بين إرهاب داخلي تمارسه على الأرض وإرهاب دولي يتجاوز تلك الحدود بخرقها القرارات الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، وبحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، فالمضمون الذي تمارسه إسرائيل واحد، بقدر ما يتضمّن عنفا ضد المدنيين، وتهديدا، واعتقالات، وقتلا بالرصاص..، تمارس أيضا مخالفات سياسية، وقانونية، تضمن حماية حقوق الإنسان.
في التعريف القاموسي للإرهاب: "الإرهاب هو استخدام، أو التهديد باستخدام العنف من فرد أو جماعة، والمقصود فيه إحداث قلقٍ بالغ، وترويع من أجل دفع الأفراد أو الجماعات للقيام بعمل أو الامتناع عنه، أو الاستخدام غير الشرعي للقوة ضد الأشخاص أو الممتلكات لإذلال السكان المدنيين أو إذلالهم". الإرهاب في القدس عنفٌ مخطّطٌ له مسبقا، لم تنجح كل محاولات ردعه، والامتناع عن القيام به. ظهر أن الدولة هي من ترعى هذا الإرهاب ضد مجتمع فلسطيني، وضد مجتمع ديني كامل، يشمل مجتمعات أخرى أيضا. وكأنها تتورّط في حربٍ غير معلنةٍ معها. وبالتالي تصبح إسرائيل مسؤولة دوليا عن هذه الحرب الدينية، ولو كانت ذات "الشحن المنخفض".
إسرائيل دولة خارج الإطار المألوف. تتحدّى مشاعر العالم. يبقى أن الفلسطينيين يعرفون قيمة تلك الأرض الثمينة جدا. لن يكونوا، في النهاية، الضحية السهلة
جاء في تعريف اللجنة الفرعية لتعزيز حقوق الإنسان في الأمم المتحدة هذا التعريف لإرهاب الدولة: "إرهاب الدولة هو الرعب الذي تمارسه الحكومة في إطار الإقليم المحلي، أو الإقليم المحتل، أو أنه الإرهاب السياسي الدولي الذي ترعاه الدولة". وجه الخطورة أن يصبح إرهاب الدولة ملازما للنظام نفسه. في هذه الحالة، تصبح الحكومة الإسرائيلية ذاتها مصدر الخوف والترهيب، وهو الإرهاب من فوق، مناقضا للقانون الدولي. إرهاب يومي يصبح جزءا من بيروقراطية الكيان المحتل. هذا أخطر أنواع الإرهاب وأكثره إيذاءً للمدنيين. لا يمكن تبرير ما تقوم به إسرائيل بأي اعتبار سياسي، أو فلسفي، أو تاريخي، أو أيديولوجي، أو عرقي، أو ديني. وهذا يرسي قواعد جديدة، تفترض احترام التناسب القانوني بين إجراءات المحكمة الجنائية الدولية أو التحقيقات التي تجريها بعض الدول الأوروبية عن مقتل مدنيين في أوكرانيا، ثم دعوة المجتمع الأممي إلى تفعيل الأوامر الزاجرة للأعمال للعدوانية، والإبادة، والجرائم ضد الإنسانية، والتعذيب، والاعتقال، والاستعباد عملا بالقرار 1566/ 2004.
ما حصل ليس مسألة عرضية. صار يحتاج تعريفا جديدا في إرهاب الدولة، كظاهرة تهدّد الفلسطينيين في نمط حياتهم، إلى استلاب أرضهم، وهو ما يتعرّض للهجوم. هذا عدا حالة استهزاء إسرائيل بالقانون الدولي في تحدٍّ عنيف للقانون والعدالة ولمسائل دينية. العالم مدعوٌّ إلى التفكير بطريقة منهجية بعد ما جرى. كتب إيمانويل كانط قبل مئتي سنة ونيف: "بطريقة لا يمكن تحاشيها نحن نقف جنبا إلى جنب". هذا مقترح لاحتواء اعتداءات المستوطنين، وإساءة استعمال إسرائيل فكرة دولة مفصومة عن التاريخ. دولة خارج الإطار المألوف. تتحدّى مشاعر العالم. يبقى أن الفلسطينيين يعرفون قيمة تلك الأرض الثمينة جدا. لن يكونوا، في النهاية، الضحية السهلة.