في أهمية تجديد حسن حنفي التراث

02 نوفمبر 2021
+ الخط -

لكل متابع أن يقرأ المشروع الفكري للراحل الكبير، حسن حنفي، من وجهة نظره. وهو برأي كاتب هذه السطور من أولئك المفكرين القلائل الذين فتحوا باب التاريخ على مصراعيه لقراءة التراث الإسلامي خارج صندوق الخوف من المقدّس والموروث، بمعناه الديني، وبمعناه الاجتماعي أيضاً. لكن هذا لا يعني أن حنفي كان مثالياً في كل ما فعل وكتب وقدّم، ولعله انزلق هنا وهناك نحو ممارسة التوفيق المفتعل بين التراث الديني والفكر الإنساني المعاصر، لكنه من دون شك فعل ذلك من منطلق حرصه على أمته، ورغبته بنهضتها وتقدّمها، وأسفه على تردّي أحوالها الحضارية، وهذا كله يجعل إرثه الثقافي فصلاً في مسيرة المشروع النهضوي العربي، الذي: يمرض ولا يموت.  
لكن تقديم قراءة موضوعية في منجز حسن حنفي الفكري، بخاصة مشروعه حول "التراث والتجديد" لا يجب أن يتورّط في ممارسة الحكمة بأثر رجعي، فلولا ريادة حسن حنفي وعدد من مجايليه، خصوصاً في مصر، في الإقدام على فتح خزانة التراث ونقدها بأدوات نقدية حديثة، لما تقدّم التفكير الديني إلى الحد الذي اكتشفنا فيه أن كثيراً من محاولات "التوفيق" لا تخرج عن مجال "التلفيق"، وأنه يجب الانتقال من فكرة التشكيك بكيفية فهم التراث إلى التشكيك بمصداقية ذلك التراث نفسه. نحن نتقدّم، لكن بفضل تضحيات وصبر أولئك الذين قدّموا قراءات إسلامية جديدة على مدار العقود الأربعة الأخيرة.

تقدّم حنفي خطوة في درب التحلّي بالشجاعة لنقد الموروث الديني خلال النصف الثاني من القرن العشرين

وصف حسن حنفي مشروعه في التراث والتجديد بأنه "جمع بين الماضي والحاضر، بين القديم والجديد، بين الأصالة والمعاصرة. بين كيف يخرج الجديد من القديم بهمّ العصر وفعل الزمن" (حسن حنفي، علوم السيرة، الجزء الثالث من سلسلة من النقل إلى العقل، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2013). ولا أجد أفضل من هذا الوصف لشرح التموضع التاريخي للمشروع الفكري الذي تركه لنا حسن حنفي. يقول مثلاً: "لمّا كانت العلوم النقلية في حاجة إلى إعادة بناءٍ جذري، وهزّ من الأساس، فإنّ مزيداً من الإعلان وقليلاً من التخفّي قد يؤدّي هذا الغرض.. ويسلم الجميع الآن بأن كثيراً من الأساطير قد دخلت فيها من الإسرائيليات ومن الخيال الشعبي ونظم الحكم.. وقد حاولت بعض السير المعاصرة ذلك بحياء شديد ونسيها الناس، ولم تؤثر في مسار العلم لغلبة طابعها الأدبي أو السياسي أو الإنساني". ويضرب على ذلك مثلاً محاولات محمد حسين هيكل، وطه حسين، والعقاد، وغيرهم.
وهذا يعني أن حسن حنفي، كما أبناء جيله من مجدّدي الفكر الإسلامي، سواء منهم الصريحون والمباشرون، مثل نصر حامد أبو زيد وفرج فودة، أو غير الصريحين وغير المباشرين مثل سيد القمني، تقدّم خطوة في درب التحلّي بالشجاعة لنقد الموروث الديني خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ذلك الدرب الذي كان طه حسين ومجايلوه قد تقدّموا فيه بخطوة سابقة، بعد الخطوة الافتتاحية التي قدّمها رفاعة الطهطاوي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وتبعه فيها جيل الرواد الذين كان معظمهم من علماء الدين المجدّدين.

لحسن حنفي وجيله فضل كبير في المسيرة الفكرية لمشروع النهضة العربية

الجيل الرابع، إن صحّ هذا التحقيب التاريخي، يقدّم اليوم طروحاتٍ أكثر شجاعة بالاستفادة من ثورة المعلومات والتكنولوجيا، مستفيداً من وجود "يوتيوب" ومواقع التواصل الاجتماعي للوصول إلى شرائح أكبر من الناس، وتقديم أفكاره في قوالب جذابة تستعمل فنون الغرافيك وتنتهج التفاعل مع الجمهور. وتكفي متابعة بعض قنوات يوتيوب التي يديرها شباب نابهون، لمعرفة المسافة الشاسعة التي جرى قطعها في درب نقد الموروث الديني، وإنْ كان معظم هؤلاء الشباب من المهاجرين في أوروبا وأميركا، وهو ما يفسّر كم الشجاعة التي يتوفرون عليها مقارنة بمن سبقوهم. لكن قطع كل هذه المسافة، حتى وإن كان الطريق ما يزال يبدو في أوله، لم يكن ليتحقّق لولا خطوات الأجيال السابقة. وهذا يعني أن أهمية المشروع الفكري لحسن حنفي لا تكمن في مضمونه وحسب، بل ربما لا تكمن في مضمونه بالمرّة، كحال جيله كله، وإنما تكمن في تلك الأبواب الموصدة التي فتحها، وفي تلك المشاعل التي أضاءها، وفي ذلك الدرب الذي مهّده، كي تصحو الأمة من غفلتها يوماً ما، وتنطلق نحو نهضتها.
لبيان الفرق بين طروحات حسن حنفي (وجيله) والطروحات المعاصرة اليوم، وكيف أن الثانية تدين بالفضل للأولى بالضرورة، نقرأ لحسن حنفي قوله: "هو تاريخ يعتمد على الروايات، روايات ابن اسحق وابن هشام. هو تاريخ من خلال الرواية، وليس من خلال المشاهدة العيانية أو من خلال تحليل الروايات واستنباط مضمونها.. وتصبح السيرة أسطورية طالما أن مصادرها التاريخية أسطورية". وما يفعله حنفي أنه يعيد قراءة التراث، بما فيه سيرة ابن هشام، لتنقيتها من الأساطير، وتقديم قراءة معاصرة لها تقوم على العقل عوضاً عن النقل، معتبراً أن ابن هشام خلّصها مما وضعه فيها ابن اسحق من خرافات وأساطير، لكنه فاته حذف أساطير أخرى منها، وبات علينا تجاوزها لأنها تناقض العقل. فهل كان ممكناً الوصول اليوم إلى نقد روايات ابن هشام (ت: 218هـ) التي كتبها بعد نحو مائتي سنة من وفاة صاحب السيرة، من دون المرور بمرحلة نقد بعض ما جاء فيها؟ 
بالطبع لا، لذا فإن لحسن حنفي وجيله فضلا كبيرا في المسيرة الفكرية لمشروع النهضة العربية. وعلينا أن نقرأ إرثه الفكري ضمن ظروفه التاريخية والموضوعية، وباعتباره مرحلة لا يمكن لولاها أن نتقدّم أكثر.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.