فيضانات درنة ووهن التضامن الدولي
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية
أثارت الفاجعة الأليمة والمصاب الجلل الذي ألمّ بالشعب الليبي جراء الكارثة الطبيعية (إعصار دانيال) صدمة مروّعة للعالم بشماله وجنوبه وبشرقه وغربه، وكشفت الغطاء عن تردّي المنظومة الدولية للمساعدات الإنسانية، كما يرتئيها القانون الدولي الإنساني الذي بقي رهين إرادة الدول العظمى التي تنتهج سياسة الكيل بالمكيالين، وتلعب دور المتفرّج الحزين والمتابع المنشغل بقتامة الوضع، كما برهنت عن وهن المجتمع الدولي وتخاذله عن القيام بهبّة جماعية جديرة بحجم الكارثة وفداحة الخسائر البشرية والمادية، فانصبّ الاهتمام على تحميل المسؤوليات والانكباب على مواطن التقصير والإهمال، وتغافل عن جوهر الأمور المتمثل في عبء التصدّي لمخلفات الكارثة، بل أضحى الخلاف بشأن عدد الضحايا والموتى يثير الاهتمام والجدل أكثر من إيجاد السبل لحشد الدعم وتكثيف طرق المناصرة والنجدة لدرنة المنكوبة، للبحث عن المفقودين ومدّ يد العون للناجين، حتى لا تتفاقم الكارثة وتتحوّل إلى أوبئة وأمراض خطيرة وعاهات إنسانية ونفسية مستدامة تتوارثها أجيال وأجيال.
الواقف عند أسباب هول الكارثة وتضاعف أعداد ضحاياها، على أهميتها، كالواقف على الربوة يبغي الحساب والعقاب من دون المرور إلى الفعل وإعادة البناء ومقارعة تداعيات الأزمة، فالانقسام السياسي والاقتتال في ليبيا منذ أكثر من عقد والتشرذم القبلي واقع عانى منه المواطن الليبي الأمرّين وأهدرت ثرواته واهترأت بناه التحتية، وخيم وضع من عدم الاستقرار وضبابية المشهد السياسي العام عليه، لكنه ظل صامداً مناضلاً أبياً شامخاً، أملاً في مستقبل أفضل له، وبرهن على قدرة عجيبة على التأقلم مع الأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية، ولم يفقد العزم والتوق للتغيير والحرية والسلام والرفاه، إلا أن الكارثة الطبيعية التي ألمّت بدرنة جعلت ينتبه إلى خذلان العالم أكثر من انتباهه إلى خذلان سياسييه وقادته ونخبه الحاكمة.
المنظومة الدولية للإغاثة الإنسانية تعاني قصوراً وتعثّراً في تكريس مبادئ المساواة وحقوق الإنسان وقواعد الفاعلية والنجاعة
منظمات عالمية بحجم الأمم المتحدة والمنظمة العالمية للصحة ووكالات الإغاثة الدولية لم تكن فاعلة على التراب الليبي بالقدر الكافي، ولم تنسّق جهودها وتكثف أعمالها، لتكون في مستوى جسامة الكارثة التي حلّت بالشعب الليبي، ولدعم العمل الجبّار الذي تقوم به فرق إنقاذه وسلطاته ومنظمّاته وبعض الداعمين لها من الدول، رغم ضعف الإمكانات وهول المصاب، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل عن أسباب هذا الغياب أو التغييب، وعن مبرّرات محدودية الجهود الدولية المبذولة للإنقاذ وانتشال الجثث من تحت الركام ودفنها بطريقةٍ تليق بحرمة الإنسان، وتقي من تفاقم الوضع الصحي، وتفي بتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة والضرورية، فما عدا بعض الدول التي هبّت لمعاضدة جهود السلطات المحلية والوطنية عبر إرسال فرق البحث والإنقاذ للمشاركة في عمليات إغاثة المتضرّرين من الفيضانات، ظلت الجهود الدولية مبعثرة ومحدودة، وعاجزة عن السيطرة على الكارثة، وعن التصدّي لتداعياتها المرعبة، فقد أطلق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية نداءً لجمع أكثر من 71 مليون دولار لتوفير مساعدات عاجلة لنحو 250 ألف شخص، هم الأكثر تضرّراً من الفيضانات. لكن هل تعامل المجتمع الدولي الذي هرولت دوله العظمى لنيل نصيبها من إعادة إعمار ليبيا إثر الثورة، وتهافتت شركاتها للسطو على مقدّرات شعبه، قادرة اليوم على توفير هذا المبلغ، وبسرعة قصوى، للحد من آثار الكارثة المرعبة وللتصدّي لفداحة الخسائر البشرية والمادية، هل تعامل مع ليبيا بالهبّة التضامنية نفسها التي تعامل بها مع دول أخرى منكوبة؟
لا مجال للشك في أن المنظومة الدولية للإغاثة الإنسانية تعاني قصوراً وتعثّراً في تكريس مبادئ المساواة وحقوق الإنسان وقواعد الفاعلية والنجاعة، وتطغى عليها الأنانية والارتجال والحسابات الضيقة، وتظل رهينة تضامن الدول الكبرى وتجنّدها لدرء المخاطر والحدّ من الخسائر وإعادة حياة السكان إلى سالف عهدها، ألم يكن من الأجدر أن تتسلّح المنظمة الدولية مع التغيرات المناخية المخيفة التي تهدّد الكوكب بأكمله بمنظومةٍ ناجعة للحدّ من مخاطر الكوارث، عبر وضع برنامج لوصول الإنذارات المبكّرة للجميع، ولاتخاذ الإجراءات والتدابير الوقائية اللازمة والضرورية، ومن ثمّة التأسيس لتدخل دولي مبكّر وقائي وعاجل في الجهات المهدّدة للحد من تداعيات الكوارث الطبيعية وارتفاع درجات الحرارة، لأنه أضحى من الواضح أن الجهود المحلية غير كافية لمواجهة فواجع تصيب العالم بأكمله بدرجاتٍ متفاوتةٍ وبوتيرة متسارعة ومدمّرة.
ستبقى مأساة درنة وصمة العار على جبين المجتمع الدولي الذي تناساها وتغافل عن مُصابها الجلل
لقد أصبح تطوير القواعد الدولية للوقاية من الأزمات والكوارث الطبيعية وملاءمتها للوضع البيئي العالمي الراهن حتمياً على المجموعة الدولية أن تعكف عليه بصورة استعجالية. وعليها أن تشرع في مراجعة القواعد المتعلقة بالتعاون في مجال الرصد والتنبؤ واتخاذ الإجراءات الدولية والاستثنائية اللازمة لمواجهة الكوارث والجوائح المحتملة بصورة جماعية، بالإضافة إلى ضرورة مراجعة القواعد المتعلقة بالإجراءات الفورية للإغاثة وإنقاذ المتضرّرين وتقديم المساعدات الإنسانية وقواعد التضامن الدولي المتعلقة بمواجهة آثار الأزمة المستقبلية وتداعياتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والإنسانية لضمان عودة حياة السكان إلى نسقها العادي، وتقتضي هذه المراجعات ضرورة إيجاد حلول جماعية وبرامج دولية محكمة وناجعة ذات طابع استعجالي واستثنائي، يتحمّل فيها مختلف المتداخلين الدوليين أدوارهم ومسؤولياتهم. كما أنه بات على الدول المصنّعة أن تتحمّل المسؤولية الكبرى لما آل إليه كوكب الأرض من تلوث وانحباس حراري وانبعاثات غازية سامّة، وما ترتب عن ذلك من تغيّرات مناخية وكوارث طبيعية مزلزلة، لأنها المتسبّبة بشكل عام في هذا الوضع المخيف. لذلك يجب أن تكون مساهمتها في مواجهة آثار الكوارث والحدّ من أضرارها الفورية والمستقبلية على البشر وممتلكاتهم ومحيطهم فورية وجسيمة وناجعة، وأن تنخرط بصورة جدّية في المعاهدات والالتزامات الدولية المتعلقة بالحدّ من الانبعاثات السامّة، ومن ظاهرة الاحتباس الحراري، فالكوارث والأزمات المرعبة التي تصيب العالم جرّاء هذه الظواهر ستلحق جميع مكوّنات المجتمع الدولي بمختلف درجات نموّها ورقيها، ولن تستثني أحداً إن لم يقع التعامل معها على أساس أنها تحدّيات كبرى تهدّد الإنسانية جمعاء وتحدق بكوكب الأرض بأكمله.
ستنتفض درنة المنكوبة من تحت الركام وستعمر من جديد، بفضل سواعد رجالها ونسائها، ولكن بتكلفة باهظة وآثار موجعة لن يمحوها التاريخ، وستبقى وصمة العار على جبين المجتمع الدولي الذي تناساها وتغافل عن مُصابها الجلل.
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية