فلسطين والعبء الأوكراني الإضافي

07 ابريل 2022

(بول غيراغوسيان)

+ الخط -

المشهد يستحقّ الفرْجة المُسْتَفزَّة: على أرض مطار بن غوريون الإسرائيلي طائرة قادمة من أوكرانيا، وكل العدَّة جاهزة. صفّان من المستقْبلين، حاملين الورود والأعلام الإسرائيلية، وسجّادة حمراء بينهما، وتعليق للمراسل التلفزيوني مليء بالمشاعر الرقيقة... تصل الطائرة المنتظَرَة، فترى رئيس وزراء إسرائيل، نفتالي بينت، خارجاً من بابها، حاملاً طفلاً، وإلى جانبه حاخام كييف، جوناثان مالكوفيتش، وخلفهما زوجة هذا الأخير وأولاده، ومجموعة من الأطفال الأيتام. كلهم هاربون من الجحيم الأوكراني... صوت المذيع يتهدّج، وبعض الدموع تنْهمر. المشاعر تصل إلى ذروتها عند نزول الجَمع من الطائرة، مزيج من الألم والرضا. وإسرائيل الكريمة، المرحِّبة، الإنسانية... تلمس صوت المذيع. مشاعر رئيس الوزراء الممتلئة مبتهجة، والحاخام الأوكراني ممْنون، وزوجته في الخلف مع زوجة بينت، وتبادل ابتسامات دافئة. امتنان على امتنان.

هذا المشهد يريح إسرائيل. في أثنائه، سجال قصير، عن استقبال اللاجئين الأوكرانيين في البلاد. بين من يريد أن يفتح الباب على أصحاب كل الأديان، ومن يريد أن يقْصرها على الأوكرانيين من اليهود. ثم قرارٌ بألّا يتعدّى هؤلاء الخمسة آلاف لاجئ غير يهودي. وليس النقاش كمْ من اليهود الاوكرانيين يستقبلون، فهذه بداهة، أعدّ لها وزير المالية، أفيغدور ليبرمان، في خطوة أولى، ميزانية خاصة، واتفق مع رؤساء بلديات ثلاث مدن إسرائيلية لبناء ألفين وخمسمائة منزل مؤقت لاستيعاب اللاجئين.

وفي حركةٍ أخبث من هذه، كان اللاجئون الأوكرانيون ينْدسّون بصمتٍ في المستوطنات العشوائية، "غير الشرعية"، التي بناها الاسرائيليون على قرى الضفة الغربية، الفلسطينية؛ وأراضيها، أو ما تبقى مما اعترفت به إسرائيل بأنّها فلسطينية. وحركة إسكان اللاجئين الأوكرانيين اليهود في هذه المستوطنات تقف خلفها مساعي الدولة الإسرائيلية نفسها، ومنظّمات المستوطنين، منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا: بالسفر اليها، محمَّلين بكتيّبات وإعلانات تحثّ يهودها على اللجوء لإسرائيل، والسكن في هذه المستوطنات.

حركة إسكان اللاجئين الأوكرانيين اليهود في المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين المحتلة تقف خلفها مساعي الدولة الإسرائيلية نفسها، ومنظّمات المستوطنين

في هذه الأثناء نفسها، اجتمع وزراء خارجية أميركا والإمارات والمغرب والبحرين ومصر وإسرئيل، لأول مرة في صحراء النقب. لم يُصدروا بياناً رسمياً، لكنّك تفهم، من أقوالهم، أنّ غرضهم منه تطْمين المعنيين من موقف أميركا في مفاوضات النووي. لم يُسأل الفلسطينيون عن الموضوع، ولا دُعي رئيسهم، محمود عباس، المذْعن أصلاً، إلى هذه القمّة التي تستضيفها إسرائيل، ويتقرّر فيها شأن المنطقة؛ وأيضاً هنا، على أرضٍ ليست أرض المشتركين فيها. وعلى حساب سلامٍ وحقوق لم تتوقف عن إجهاضها. لم يذكُر أحدٌ من هؤلاء السادة المجتمعين شيئاً عن هذه الحقوق. وحده وزير الخارجية الأميركي، كان شفوقاً: فبعدما، كرّر "ضرورة مواجهة إيران وأذرعتها في المنطقة" أنهى كلمته مؤكداً "على العمل على تحسين الفرص للإسرائيليين والفلسطينيين للعيش معاً" فقط لا غير، فيما لم يتفوّه الوزراء العرب بأيّ كلمة، ولو جبْراً للخواطر، ولو للإعلام.

بعد ذلك بقليل، توجّه الرئيس الأوكراني زيلنسكي إلى المؤتمرين في منتدى الدوحة، عبر "الزوم". كما فعل مع جهاتٍ أخرى، عزف على الوتَر الذي اعتقده فعّالاً لحشد مسْتمعيه من أجل قضيته، فكانت حجّته في طلب دعم المؤتمرين لبلاده: "أنقذوا مليون مسلم في أوكرانيا من الخطر الروسي!". عند هذه الحدود، توقفت معرفته بالعالم العربي - الإسلامي.

كلّ هذه الوقائع الثلاث المتزامنة تحوّل الشعب الفلسطيني إلى شبح، تزيله عن الرؤية، عن السمع. كأنّه غير موجود. ليس أنه فاقد للحقوق ومنزوع الأرض والمستقبل، ومهدّد يومياً بحياته، بعيشه ومنزله ولقمته. بل إنّه غير موجود.

الآن، حاول أن تجمع كلّ هذه الوقائع، وتضعها في سياقها. ماذا تنتظر ساعتها من الفلسطينيين؟ أن يفرحوا؟ أن يصمتوا؟ أن يركنوا إلى الحائط؟ أن يفقدوا سمعهم وبصرهم، ويتعاموا عن مظاهر، كلها تهدم حقوقهم؟ تُنكر وجودهم؟ أن يشاهدوا على الشاشة رحابة إسرائيل وطيبة قلب رئيس وزرائها .. وهم يُطردون منها؟ أرضهم؟ ووزير المالية الذي يخصّص لبناء البيوت، ويغازل نفسه على "أناقةٍ في أخلاقه" فيما شركاه يتَغلغَلون في المستوطنات؟

جاءت إسرائيل بيهود العالم المفجوعين من الهولوكوست والبروغروم، والإضطهاد التاريخي المنهجي والعشوائي. استقبلت مفجوعين قدماء على أرضٍ، كتبت فجائع جديدة بحق أصحابها

ربما لهذه الأسباب اندلعت العمليات الثلاث التي قتلت وجرحت إسرائييلين كثيرين، في داخل إسرائيل نفسها. ربما أيضاً، احتفالاً بالذكرى السنوية ليوم الأرض، أو مع اقتراب شهر رمضان، وتحسّسٍ صحيح بما سوف يضيّق على أهل الصلاة والتراويح، أو الذكرى الأولى لإنتفاضة حيّ الشيخ الجراح في القدس منذ عام تقريباً.

العمليات الثلاث ضد إسرائيليين في قلب إسرائيل تُفهَم في هذا الضوء. وهي أعادت إسرائيل عشرين سنة إلى الوراء عندما "كُنّا نخشى الصعود في الحافلات، واليوم أصبحنا نخاف المشي في الشوارع" (أحد المستوطنين)... والمصادفة ذات الدلالة الأخرى أنّ اثنين من ضحايا هذه العمليات من الأوكرانيين اليهود. واحد كان يخطّط للعودة إلى أوكرانيا قبل اندلاع الحرب فيها، فصمّم على البقاء في إسرائيل من بعدها. والثاني لاجئ أوكراني يهودي، هارب من بلاده إلى ما اعتقد أنّه "أمان".

ردود الفعل الإسرائيلية على العمليات الثلاث لم تنتظر كثيراً. حملات أمنية وعسكرية واسعة. اغتيالات، هدم بيوت، اقتحامات، إعتقالات .. ومزيد من العذاب للفلسطينيين ومن انسداد أي أفق أمامهم، غير الموت، ولا حلول في جعبة إسرائيل إلّا الأمنية منها. بالطبع، سوف يستمر الفلسطينيون في الخروج، وفي القول إنّهم ما زالوا هنا، وإنّ كبوتهم ليست نهائية، وإنّ قتلهم، هكذا، على زوايا الطرقات، لن يقتلهم. لكنّ إسرائيل اليوم، مع الحرب الأوكرانية، تعرض علينا وجهاً مغرقاً في مفارقته. هي إسرائيل نفسها التي سرقت أراضي الفلسطينيين، وحوّلتهم إلى لاجئين، خارج وطنهم الأم أو داخله .. ها هي تستقبل لاجئين من حربٍ ظالمة، وتهديهم، عملياً، منازل الفلسطينيين، أي إنّها نزعت أرضاً عن مظلومين، وأعطتها لمظلومين آخرين.

يندسّ اللاجئون الأوكرانيون بصمتٍ في المستوطنات العشوائية "غير الشرعية" التي بناها الإسرائيليون على قرى الضفة الغربية

إسرائيل نفسها، تهدم البيوت، بقراراتٍ إدراية أو بقصف، تُشرّد أهلها الفلسطينيين. هي نفسها تبني بيوتاً جديدة لأناسٍ هاربين من الظلم. تماماً كما فعلت طوال القرن الماضي، قبل تأسيسها وبعيْده. جاءت بيهود العالم المفجوعين من الهولوكوست والبروغروم، والإضطهاد التاريخي المنهجي والعشوائي. استقبلت مفجوعين قدماء على أرضٍ، كتبت فجائع جديدة بحق أصحابها.

وأطرف ما كتبه الإسرائيليون على أثر الحرب الأوكرانية، مقال باسم ستافرون، عنوانه "قبل أن تركز على أوكرانيا، ثمة إبادة جماعية تحصل الآن". ومن هم ضحايا تلك الإبادة؟ لا تغلط وتقول "إنهم الفلسطينيون". إنّهم إثنية الروهينغيا في ميانمار التي تبعد عشرات آلاف الكيلومترات عن إسرائيل .. لاقى المقال رواجاً هائلاً على المواقع الإسرائيلية، فأراح ضمير القوات الإسرائيلية الخاصة التي تستعد للانقضاض للمرة الألف على الفلسطينيين، في عملية سمّتها "كاسر الأمواج"... وبتغطية صحافية شبه معدومة تقريباً من الإعلامَين، الغربي والشرقي.

الآن، ثمّة شبه بين القضيتين الفلسطينية والأوكرانية. الاثنتان قضية حق مطلق لشعب يريد العيش على أرضه حرّاً كريماً. والاثنتان تسلّلت إليهما شياطين من أصناف مختلفة: جيوسياسية، مصالح "حيوية"، عواطف الديماغوجيا، المزايدات الرخيصة والثمينة، المصادرات بالجملة.. القضية الأولى، الفلسطينية، أقدم من الثانية، أعمق منها، خيوطها أكثر تعقيداً، بما صار يشبه التقليد. والثانية على الطريق. والاثنتان أيضاً تلّخصان الكفاح الدائم للإنسان، بأنّ يعيش آمنا في داره، بأنّ لا يُشرَّد، لا يُقتل، لا يُتاجر به، لا يُحبس.. على يد الذي استقوى عليه في لحظة من لحظات الاستقواء. وهذه لن تنتهي إلّا بحلّ القضيتين حلاً عادلاً. وإن لم تحلّا، فستُضاف إليهما قضايا أخرى، تكون قد تكوّنت، في قلبهما أو على جوانبهما .. وحجرة سيزيف لها الخلود.