فلسطين مقياساً لإنسانيتنا وأخلاقنا

13 نوفمبر 2023
+ الخط -

لا تكمن الخطورة على الشعب الفلسطيني في الهجوم الغربي عليه، حين اكتشف هذا الغرب أن ثمّة روحاً ما تزال تنبض في هذا الشعب، وأن ثمّة قدرة باقية لديه على اتخاذ القرار والفعل والتأثير، على الرغم من الحصار والتجويع والإبادة الصامتة، تلك القدرة التي برزت من خلال عملية طوفان الأقصى المكينة والكاشفة، بل تكمن الخطورة أيضاً في ذلك الخطاب الغربي الشاذ الذي ردّ فيه على ذلك الاكتشاف، بقرار يبدو أنه يهدف إلى استباق الزمن، من أجل محو كل ما يمتّ لفلسطين من عقول أبنائه وأبناء الشعوب الأخرى وقلوبهم. وهذه حقيقة لم يكن لكثيرين أن يصدّقوها إلا بعدما شهدوا ما اتّخذته حكومات هذا الغرب من قراراتٍ يمكن تصنيفها مكارثية، تتضمّن منع التعاطف مع الضحايا في غزّة، وتجريم تداول كل ما يشير إلى الشعب الفلسطيني وفلسطين من رموز، كالأعلام والكوفيات والأثواب والخرائط، وغيرها من الرموز، وملاحقة أصحابها وطردهم من أعمالهم وجامعاتهم. 
وفي هذه الممارسة، يريد الغرب تجريد شعوبه من الإنسانية، وربما من الأخلاق التي تدفع كثيرين إلى التعاطف مع الضحية. وليس أدلّ على مدى ضراوة هجوم الإسرائيليين وداعميهم في الغرب على القيم الإنسانية والأخلاقية سوى قول يوآف غالانت "نحن نحارب حيواناتٍ بشرية"، والتي تلقّاها الغرب وتماهى معها، حين رفضت أغلب دوله وقف إطلاق النار في غزّة، وبرّرت جرائم الاحتلال ومجازره بحقّ أهل غزّة بعبارة "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها". وتزداد الخطورة على الشعوب عامة مع ازدياد انتشار أفكار اليمين المتطرّف والشعبوية في الغرب الأميركي والأوروبي الذي لا يرى في الموقف الأخلاقي لشعوبه من القضية الفلسطينية والتعاطف معها سوى خطوة تندرج في سياق الاعتراض على سياسات هذا اليمين وعلى الزعماء الشعبويين الجدد، تلك السياسات التي تصبّ، في النهاية، في صالح نُخَب الليبرالية المتوحّشة التي تتحسّس الخطورة من أي فعل احتجاجي، وتعمل على الانقضاض عليه وعلى أصحابه.

استجاب فيتوريو أريغوني للنزعة الإنسانية الكبيرة التي في داخله، وعاد إلى غزّة، حين كانت طائرات الاحتلال الإسرائيلي تمطر القطاع بقنابلها، في أثناء حرب "الرصاص المصبوب"

ربما كان الصحافي الإيطالي الراحل، وعضو حركة التضامن الدولية مع الشعب الفلسطيني، فيتوريو أريغوني، أكثر مَن لمَس محاولات إسرائيل والغرب نزع صفة البشرية والإنسانية عن الفلسطينيين من أجل استسهال استهدافهم وقتلهم، فلا يؤدّي ذلك إلى إثارة ردة فعل مستنكرة ومندّدة. لذلك استجاب للنزعة الإنسانية الكبيرة التي في داخله، وعاد إلى غزّة، حين كانت طائرات الاحتلال الإسرائيلي تمطر القطاع بقنابلها، في أثناء حرب "الرصاص المصبوب"، سنة 2008، على متن قارب، جالباً معه، هو وأصدقاؤه، مساعداتٍ إنسانيةً وطبية لمساعدة أهل القطاع على مواجهة تلك الحرب والبقاء على قيد الحياة. وقد رأى أريغوني من الأهوال والجرائم ما يجعل كل من يقف مع المحتل أو حتى يشتري منتجاته، متورّطاً في تلك الجرائم. ولم ينسَ الساكت عنها، من الناس العاديين، الذي صنفه فاقد لأي حس إنساني وأخلاقي. لذلك كتب يومياته عن تلك الحرب من داخل القطاع ونشرها بشكل شبه يومي على صفحات صحيفة إل مانافيستو الإيطالية، ثم جمعها في كتاب أطلق عليه عنواناً هو: "غزة: حافظوا على إنسانيتكم". يومها حدّد أريغوني مدى إنسانية البشر بمدى تعاطفهم مع قضية الشعب الفلسطيني ومعارضتهم الحرب الإسرائيلية عليه. لذلك حين كان يذيِّل مقالاته اليومية بعبارة "حافظوا على إنسانيتكم"، لم يكن يتوقع أن يُكتب ذلك الشعار على اللافتات التي رُفعت خلال المظاهرات التي عمّت أوروبا احتجاجاً على الحرب الإسرائيلية على غزّة، غير أن الحس الإنساني ارتبط بالأخلاقي لدى كثيرين رأوا أن السكوت عن تلك الجرائم هو مشاركة في الجريمة.
لو بقي أريغوني حياً لكنا شاهدناه الآن يتنقل بين أحياء غزّة في سيارة إسعاف لينقذ من يمكن إنقاذه، كما كان يفعل أثناء حرب الرصاص المصبوب، إلا أن الفارق اليوم أنه ربما كان سينهار بسبب الفظائع التي كان سيشهد عليها، وبسبب جرائم قصف المستشفيات وتدميرها فوق رؤوس المرضى والنازحين، وبسبب المجازر التي يرتكبها الإسرائيليون على مدار الساعة. وربما لن يصدّق أنهم بشر أولئك الذين يتلهُّون بعمليات الإبادة الجماعية وتصيُّد الأطفال الفلسطينيين والنساء في منازلهم وعلى الطرقات وقرب الأفران، أو حتى وهم فارّون. وربما سيكون عاجزاً عن توثيق الجرائم الإسرائيلية وأعمال القصف في يومياته ليرسلها للنشر في الصحيفة الإيطالية، أو غيرها من الصحف، لأنه لن يجد الوقت بين مجزرةٍ ومجزرةٍ لكي يسجلها، أو ربما لأن مخيلته لن تسعفه في تذكّر كل ما حدث وكل ما يحدُث، بعد رؤيته المشاهد التي ستنعدم الكلمات التي تستطيع وصفها.

كان الموقف المتناقض، لدى فئة ليست قليلة ممن تعاطفوا مع ضحايا الهولوكوست، والذين ناصروا الشعب الأوكراني للصمود في وجه الغزو الروسي

ولكن لماذا التعويل على الأخلاق والقيم الأخلاقية التي تحدّد سلوك البشر من أجل رصد مدى إنسانية البشر، والتي تفرض عليهم الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني الذي تقتل دولة الاحتلال أبناءه وتدمّر مساكنه ومشافيه في الحرب التي ما تزال تشنها عليه من أكثر من شهر، وترفض وقفها أو تنفيذ هدنٍ إنسانية خلالها، حتى تتمكّن من تدمير قطاع غزّة على رؤوس جميع من فيه وتهجير من نجا منهم، وفق ما صرّح قادة الكيان عن نياتهم صراحة؟ يتعلق الأمر بمدى المحافظة على الأخلاق لدى هذه الجماعة أو تلك من الجماعات البشرية، ومدى منعتها في وجه التحلّل الأخلاقي والانتقائية الأخلاقية التي شهدنا أكثر صورها تقززا لدى النخب الحاكمة في الغرب الأوروبي والأميركي من ورثة الاستعمار القديم. هؤلاء وغيرهم من السياسيين والمحازبين الذين تبيّن للجميع المدى الكبير الذي تتأثر به قيمهم ومعاييرهم الأخلاقية جرّاء المخزون الثقافي والديني والموقف السياسي، ووقوعهم فريسة التعصّب والعنصرية التي تفرضها عليهم تلك المؤثرات. لذلك كان الموقف المتناقض، لدى فئة ليست قليلة ممن تعاطفوا مع ضحايا الهولوكوست، والذين ناصروا الشعب الأوكراني للصمود في وجه الغزو الروسي وتقليل آثاره على أبنائه، ودعواتهم إلى تجريم القادة الروس لانتهاكاتهم خلال الحرب، وفي الوقت نفسه، أعلنوا عداءهم للشعب الفلسطيني وهو الضحية للحرب الإسرائيلية عليه.
ماذا يمكننا تصنيف قادة الغرب ونخبه السياسية التي ترفض وقف إطلاق النار في غزّة، لكي تعطي الإسرائيليين الفرصة والوقت الأكبر لتدمير ما تبقّى من القطاع، والذي ربما لا يتجاوز 25% من بنائه وأرضه التي جرفتها آلياتهم وقصفتها طائراتهم وصواريخهم؟ وماذا يمكن تصنيف الأوامر التي يتلقّاها إعلامه من أجل التحيز لدولة الاحتلال وعدم الإشارة إلى الفلسطينيين وعمليات القتل بحقّهم سوى أنها رد على هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وعلى صواريخ تنجح في اختراق القبّة الحديدية؟ هؤلاء لا يمكن التعويل على قيم أخلاقية تمنعهم من رؤية الجهة التي تكمن فيها الضحية. هؤلاء لا يمكن التعامل معهم سوى بالمظاهرات التي تحدَّت منع كل إشارة إلى فلسطين، وهدّدت بتجريم صاحبها. تلك المظاهرات التي خرج أصحابها لكي يحافظوا على إنسانيتهم التي تحاول نخبهم الحاكمة تجريدهم منها، بانتظار أن تتدحرج تلك المظاهرات وتبتّ بعلاقة الشعوب بنخبها بتاً تكون إرادتها هي عامل الفصل فيه.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.