فضيحة أخرى لسلطات الحرب في اليمن
تفرض الفقر على اليمنيين عصاباتٌ بلا رحمة، عصاباتٌ صدّرتها نكبات التاريخ في إحدى لحظاتها كارثية، بحيث حوّلتهم إلى سلطة قهرية، تراكم بؤس اليمنيين، فمع ما تسبّبت به الحرب من تدمير البنية الاقتصادية اليمنية، وفي مقدمتها انقسام المؤسسة الاقتصادية السيادية بين طرفي الحرب، والتي أفضت إلى تسرّب موارد الدولة لصالح أطراف الحرب والقادة المحليين المواليين لهم، فإن اتساع رقعة الفقر في اليمن يرتبط، بشكل مباشر، بمنظومة الفساد التي أصبحت سلطات أمر واقع، لها أدواتها الاقتصادية، وقوانينها التي تحميها، وطرقها العديدة في نهب موارد اليمنيين، إذ تنهض سياسة سلطات الحرب على إدارة منظومة فساد متكاملة وتجذيرها في مؤسسات الدولة، سواء بالطرق التقليدية التي ورثتها عن النظام القديم، والتي هي جزء منه، أو من خلال القنوات الجديدة للفساد التي أنتجتها الحرب، بحيث كيّفت هذه الوسائل غير المشروعة وقوننتها في آليات فسادٍ منظمةٍ ضمنت تنامي ثروتها، بمشاركة الطبقة الأوليغارشية العميقة في الدولة، والطبقات الجديدة المتحالفة معها، مقابل تعويمها الفقر وتوسيع رقعته ليشمل عموم اليمنيين. وفي هذا السياق، تتكشف أهمية تقرير فريق خبراء الأمم المتحدة المعني باليمن الصادر أخيراً، وتحديداً في شقه الاقتصادي، كونه يسلط الضوء على تركيبة الفساد الاقتصادي والسياسي المحلي الذي ساهم في إفقار اليمنيين. ومع بعض القصور الذي شاب التقرير، بحيث تجاهل قوى وشخصيات يمنية، شريكة في الفساد، بما في ذلك قوى إقليمية، تتربّح هي الأخرى على حساب اليمنيين، فإن ما أورده في المحصلة لا يمثل سوى رأس الجبل العائم لفساد متوحش يخنق حيوات اليمنيين.
حمّل تقرير الأمم المتحدة الحكومة مسؤولية مباشرة عن تردّي الأوضاع الإنسانية، ما يجرّدها من السلطة السياسية والأخلاقية
تأتي الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً كجزء رئيس من تركيبة الفساد المحلي، سواء في فسادها المنفلت الذي ميز أداءها الإداري والسياسي بوصفها سلطة تدير المناطق المحرّرة، بما في ذلك إفسادها الوظيفة العامة، أو بالآليات التي تعمل وفقها المؤسسات الاقتصادية التابعة لها، والتي تديرها طغمة من اقتصاديين وسياسيين موالين لها، متورّطين بالفساد، بحيث تسببت إدارة الحكومة موارد الدولة والمساعدات الدولية على مدى الأعوام السابقة بتنمية مستوى الفقر في المناطق المحرّرة، بما في ذلك المضاربة بالعملة الوطنية، فقد أشار تقرير الخبراء إلى انخراط الحكومة اليمنية في عمليات مشبوهة لتبييض الأموال، بحيث حوّلت أكثر من 400 مليون دولار من أموال الوديعة السعودية في البنك المركزي اليمني، فرع عدن، إلى تجار محليين، الأمر الذي أضرّ بشبكة إمداد المواد الغذائية في المناطق المحرّرة، ومن ثم تسبب بتدهور الأوضاع الإنسانية.
لا تكمن خطورة التقرير الأممي في اتهامه الصريح الحكومة اليمنية بضلوعها بعملية غسل الأموال فقط، بل بجملةٍ من النتائج الاقتصادية والسياسية المترتبة على التقرير، ففي حين مثّل التقرير انكشافاً سياسياً للحكومة اليمنية، أكثر من أي تقرير آخر، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي، كونه حمّلها مسؤولية مباشرة عن تردّي الأوضاع الإنسانية، الأمر الذي يجرّدها من السلطة السياسية والأخلاقية التي تتكئ عليها في إدارة اليمن، كسلطة معترف بها، وتحديداً على المستوى الشعبي، فإنه أيضاً يسقط الأعذار التي طالما سوّقتها الحكومة اليمنية بعدم قدرتها على الإيفاء بالتزاماتها حيال المواطنين، نتيجة عجزها عن تحصيل الضرائب في المنافذ والمعابر اليمنية، فيما يكمن السبب في انخراطها في إدارة الفساد وتربّحها اللامشروع، كما تثير مضامين التقرير علامة استفهامٍ عن حقيقة دور سعودي في إدارة الفساد في منظومة حليفها، وذلك لأن السعودية تشرف، وبشكل مباشر، على الوديعة في البنك المركزي في عدن، وهو ما يجعل احتمالية تورّط متنفذين سعوديين أمراً وارداً، خصوصاً في ضوء إدارة الرياض بعض ملفاتٍ يمنيةٍ شابها فساد، كملف الإغاثة وإعادة إعمار اليمن، إلا أن الأخطر من ذلك هي الأضرار التي قد تلحق بالاقتصادي المحلي المنهار، والتي قد لا تقتصر على انكشاف مؤسسة اقتصادية سيادية، كالبنك المركزي، ووضعه على المحكّ، بوصفه طرفاً انخرط في التعاملات المشبوهة التي قوّضت الاستقرار الاقتصادي في المناطق المحررة، الأمر الذي قد يؤثر على تعامل التجار المحليين، وكذلك المانحين الإقليميين والدوليين، ما قد يؤدي إلى استمرار تدهور العملة اليمنية، ومن ثم ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وفيما تجاهلت الحكومة اليمنية، كعادتها، ما أورده التقرير، فبدلاً من إحالة كل المتورّطين إلى التحقيق، بما في ذلك أعضاء اللجنة الاقتصادية التي تشرف على أعمال البنك المركزي، وقيادة البنك، فإن التقرير تحوّل إلى ورقةٍ سياسيةٍ بيد قوى داخل الحكومة للنيْل من منافسيها.
يمثل فرض الإتاوات اليومية على التجار ومجمل الأنشطة الاقتصادية في مناطق الحوثيين، بمن في ذلك المواطنون، مورداً آخر، لنهب اليمنيين وإفقارهم
ترتكز سياسة جماعة الحوثي، سواء المعلنة منها أو التي تدير وفقها المناطق الخاضعة لها، على اختراع وسائل عديدة، غير مشروعة بكليتها، لتنمية مواردها الاقتصادية، بحيث وظفتها لتكريس سلطتها، وكذلك لتمويلها حروبها في مناطق المواجهات، الأمر الذي يجعل سلطة جماعة الحوثي، المعادل الموضوعي ليس للفساد فقط، وإنما لبنية النهب المنظم الذي تديره، فإضافة إلى اقتصاد الحرب الموازي في السوق السوداء الذي يخضع لسلطتها، والذي تديره من خلال المشرفين والطبقة الاقتصادية التابعة لها، والذي يمثل سوق المشتقات النفطية إحدى أهم قنواتها، كونه يدرّ عليها أموالاً ضخمة، بحيث تخضعه لأزماتٍ دورية يتكبدها المواطنون، فإن آلية تحصيل الضرائب على المنافذ والمعابر الداخلية التي تسيطر عليها الجماعة، بما في ذلك المنافذ التي اصطنعتها، تشكّل المصدر الرئيس للإثراء غير المشروع للجماعة، فيما يمثل فرض الإتاوات اليومية على التجار ومجمل الأنشطة الاقتصادية في مناطقها، بمن في ذلك المواطنون، مورداً آخر، لنهب اليمنيين وإفقارهم، وجديدها فرض على كل أسطوانة غاز يشتريها المواطن مبلغاً يذهب إلى المجهود الحربي. ولذلك فإن ما أشار إليه التقرير الأممي من توظيف الجماعة إيرادات الدولة لتمويل مجهودها الحربي، والتي وصلت، بحسب التقرير، إلى أكثر من بليون دولار وثمانمئة ألف في العام ما قبل الماضي، ليس سوى صورة مصغرة للنهب الذي تمارسه الجماعة، مقابل إفقارها المواطنين في المناطق الخاضعة لهم، وحرمانهم من مصدر دخلهم الوحيد، إلا أنه، وخلافاً للحكومة اليمنية، الذي يعد وصمها بعملية غسل الأموال، ومن ثم الإثراء غير المشروع والفساد، فضيحة سياسية لها ارتداداتها على منظومتها وعلى حلفائها، بما في ذلك المجتمع الدولي الذي يدعمها، فإن الجماعة لا تعبأ بأي تقارير دولية أو محلية، تكشف جرائمها واحتيالها.
في اليمن، تتفنّن العصابات اللصوصية في نهب المواطنين، سواء العصابات التي تعتمد على استمرار الحرب لتأكيد مشروعية القوة والغلبة، ومن ثم النهب، أو التي تعتمد في مشروعيتها على داعيمها الإقليميين، بحيث باتت طرقها في تجويع اليمنيين يخجل منها الشيطان نفسه، الأمر الذي يجعلها فاقدةً أي مشروعية سياسية أو أخلاقية تدّعيها، وإذا كان اليمنيون المنهكون اليوم بحربٍ بلا أفق تطاول حياتهم، وتضيق فرصهم في الحياة، بحيث لا يستطيعون مجابهة كل هذا الأذى ومحاسبة عصابة اللصوص وحلفائهم الذين تعمدوا تجويعهم وإذلالهم طيلة سنوات الحرب الكبيسة، فإن الشعوب لا تنسى جلاديها، ولا كرباج الجوع الذي أحنى ظهرها.