فشل طبقة سياسية في تونس

30 ديسمبر 2022
+ الخط -

تتفاقم الأزمة السياسية في تونس، خصوصا بعد مقاطعة حوالي 90 في المائة من الناخبين الانتخابات التشريعية التي انتظمت في 17 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، تصاحبها أزمة اقتصادية واختناق اجتماعي في ظل تعطل المفاوضات المالية مع صندوق النقد الدولي، وغضب شعبي وقطاعي من قانون مالية سنة 2023 عنوانه الأساسي الجباية.
ولأول مرة في تونس، بعد انقلاب 25 يوليو (2021)، يحدُث شبه إجماع وطني على فشل الرئيس قيس سعيّد من جميع النواحي. لقد عطّل الحياة السياسية، واستحوذ على كل السلطات والمؤسسات السيادية، من دون أن ينجز ما وعد به هو ومفسّروه. بل على العكس تماما، قدّم الديمقراطية قربانا لشهواته السلطانية وحكمه التعسّفي. وتعالت في الآونة الأخيرة الأصوات، واختلفت الأجندات المنادية بضرورة رحيله وترتيب ذلك، سواءً بحوار وطني أو انتخابات رئاسية مبكرة. ويمكن تسجيل هذه الدعوات في خانة فشل الشعبوية وبداية نهاية مستبدٍّ صغير، ولكن طريق الانتصار للديمقراطية ولكرامة الشعب لا يزال طويلا وغامضا.
من اليسير إطاحة نظام قيس سعيّد الهجين، ولكن المهمة الصعبة تتمثل في تنقية المشهد السياسي من النخب التبريرية والمتلونة ونخب اللاموقف ونخب الدقيقة التسعين، مع تنظيم الساحة الحزبية وتحديث سلوكها وخطابها، حسب ما تقتضيه المنافسة حول البرامج والسياسات العمومية.
قيس سعيد هو نتيجة فشل طبقة سياسية ونخبة غير وفية لموقعها الاجتماعي، نخبة أهدرت فرص استكمال بناء الدولة الوطنية على أسس ديمقراطية، فجزء ممن علت أصواتهم أخيرا ضد سعيّد كانوا ممن فرشوا له طريق الخروق الدستورية بالتبرير والتفسير والتهليل، طمعا في استعماله للتخلص من غريمهم السياسي، ثم وضع حد للرئيس بالقانون. .. ولكن كيف اطمأنوا لهذه المغامرة؟ كيف لمن تعسّف على القانون أكثر من مرة أن يحترمه بعد ذلك أو أن يخضع لسلطته، إن بقي للقانون سلطة أمام سلطة الحاكم بأمره؟!

سيسقط قيس سعيّد لا محالة، ولكن مسببات وجوده وظهوره لم تنته بعد، والخوف كل الخوف أن يكون قطارا يخفي خلفه قطارا أسرع

والأغرب أن يعود بعض هؤلاء إلى رشدهم بشروط مجحفة، قائمة على الإقصاء ومزيد من تشتيت المعارضة. في مقابل ذلك، يخرج رئيس حزب حركة النهضة المتصدّر لمناهضة الانقلاب والمستهدَف الأساسي منه بعد صمت طويل، ليؤكد أن زمن قيس سعيد انتهى، وأن "النهضة" لا تطرح نفسها بديلا عنه.
وبغض النظر عن التقييمات السياسية المختلفة لاداء حركة النهضة في العشرية الماضية، وعن دورها في مقاومة الانقلاب، لسائل أن يسأل لماذا يقدّم الحزب الأكبر في البلاد صكا على بياض لخصومه ومناوئيه، في الوقت الذي يتجهز فيه الجميع، الثابتون والقادمون من بعيد سواء، لما بعد هذه المرحلة... هل انتهى دور التيار الإسلامي المحافظ في تونس، أم انتهى دور حركة النهضة أم انتهى دور هذه القيادة؟
يبدو أن حركة النهضة تعجز، في كل مرة، عن حسن تقدير الموقف السياسي، ففي الوقت الذي كان الانقلاب يحظى بأقدار من الشعبية، أنكر الحزب ذلك، ولم يجرؤ على القيام بمراجعات ضرورية مع قراءة نقدية للفترة التي شارك فيها في الحكم. واليوم بعد مسيرة نضالية مشرّفة لما يقارب السنتين من التضييق والمتابعات القضائية والسجون والاختطاف التي لم تنته بإدانة "النهضة" في جميع القضايا المنسوبة إليها، والتي وقعت هرسلتها بها إعلاميا سنوات، يختار الحزب أن يفوّت في هذا الرصيد الجديد وهذه المكاسب، ويترك مكانه شاغرا.
كان على "النهضة" أن ترفع صوتها أكثر من غيرها في هذه الفترة، وتؤكد على فشل الانقلاب وأنصاره في تثبيت التهم التي وجّهها هذا الانقلاب إليها، رغم نفوذه الواسع واللامحدود، ناهيك عن فشله في إدارة شؤون البلاد. ولكن التردّد في إجراء الإصلاحات الهيكلية والقيادية الضرورية داخل الحزب وصياغة أوراق تقييمية ونقدية للمرحلة الماضية قد ألقى ظلاله على تقدير الموقف الذي استجدّ أخيرا، ما جعل أهم الأحزاب في المشهد التونسي يغرّد خارج السرب في أهم اللحظات الحاسمة.
سيسقط قيس سعيّد لا محالة، ولكن مسببات وجوده وظهوره لم تنته بعد، والخوف كل الخوف أن يكون قطارا يخفي خلفه قطارا أسرع.