فاكهة الشر الأسدي
في لحظةٍ قاسيةٍ كهذه، حين يأتي الموت هادراً عنيفاً، يلتفت الناس إلى أرواحهم، ويتشبثون بها كي لا تفلت من أجسادهم، ويتمسك البشري بأخيه، وتتراصّ الجموع، لأن في ذلك بعض النجاة من الكارثة. الدرس الذي يتوفّر دائماً بعد كل مأساة، لا يختصّ بفكرة التضامن فقط، بل يتجاوز ذلك إلى الأخلاقيات، التي تصبح معياراً لكل تفصيلٍ يمرّ مع المرء، وهو يرى الحدث، وردود الفعل عليه، إذ لا تجيز وجوه الضحايا المعفّرة بتراب الركام لأحد أن يتربّح مما آلت إليه مصائرهم، كما أنه ليس من المسموح لأي جهة أن تقوم بفعل يُخرج عن الأولويات شديدة الأهمية، وهي هنا إنقاذ حيوات من أصابتهم الكارثة أولاً.
وحده النظام السوري يخرج عن الأعراف، وعن القواعد، وعن الفطرة الإنسانية، فيحوّل زلزال السادس من شباط/ فبراير، الذي خلّف واقعاً غير مسبوق في مأساويته، إلى "بازار" للتكسّب والنجاة مما أوصلته إليه جرائمه على مر السنين. فمنذ الساعات الأولى للحدث، خرج كثيرون ممن مارسوا التقيّة في تأييد الأسد عن عادتهم، ليطالبوا المجتمع الدولي بإلغاء العقوبات المفروضة على نظامه، بحجة أنها تعيق عمليات الإنقاذ، وأنها تمنع وصول الدواء للمرضى، وأنها لا تتيح وصول الوقود لسيّارات الإسعاف.
في لحظة مأساوية كهذه، تجرّ معها فيضاً عالياً من التعاطف والرغبة في المساندة، سيذهب كثيرٌ من بسطاء السوريين والعرب، ومعهم جمع أفراد في العالم إلى تبنّي هذه الدعوة، وسينبري كل هؤلاء إلى الدفع بهذا الاتجاه، من دون التمحيص في الأسباب، والحقائق، حول هذه القضية.
سيشكل الزلزال فرصة كبيرة لكسر المحظور علناً، بعد أن كان يمارس سرّاً، حيث تواصل بعض القادة العرب وغيرهم مع الأسد بحجّة إبداء التعاطف مع المتضرّرين
المؤيدون التقليديون لنظام الكيماوي من قومجيين ويساريين ويمينيين متطرّفين، سيجدون في ذلك فرصتهم المأمولة للمساهمة في إنشاء حملات لجمع التواقيع، من الأفراد والشخصيات السياسية والثقافية والفنية، والمنظمّات والأحزاب، بهدف فكّ الحصار عن النظام، مع الدأب على إيجاد فضاء ضبابي، قوامه خلط المواقف السياسية، وتزويقها، للتعمية على الأسباب التي أدّت إلى فرض العقوبات، وأولها قتل النظام المنتفضين ضده في الشوارع، وفي المعتقلات، وقصفهم بالسلاح الكيماوي، وبالبراميل المتفجرة، ورفضه الدخول في أي مسار سياسي، يفضي إلى حل الأزمة السورية المستمرّة منذ عام 2011.
قلب الحقائق حول التفاصيل، ولا سيما العجز الكبير في القدرات، وعدم توفّر إمكانات التعاطي مع مثل هذه الكوارث لدى النظام، الذي وضع كل جهده طوال 12 سنة من أجل إبادة الثائرين ضده. ومع قليلٍ من التمويه والتضليل، سيؤدي ببساطة إلى تحميل قرارات المجتمع الدولي، التي حاولت إنصاف ضحاياه، المسؤولية عن كل شيء!
وسيشكل الزلزال فرصة كبيرة لكسر المحظور علناً، بعد أن كان يمارس سرّاً، حيث تواصل بعض القادة العرب وغيرهم مع الأسد بحجّة إبداء التعاطف مع المتضرّرين، كما توجهت طائرات عربية تحمل بعض المساعدات إلى مناطق سيطرة النظام.
وبينما كانت حوادث سرقة الإمدادات هناك تكشف عن أن شيئاً لم ولن يتغير في الطبيعة اللصوصية للنظام وشبّيحته، حتى في أسوأ اللحظات الإنسانية، كان بعض مسؤوليه يخرجون على بعض الشاشات الإخبارية ليطالبوا المجتمع الدولي بإلغاء العقوبات!
ادّعاء أن المحظورات الدولية تعيق وصول المساعدات كذب فاضح، فكل ما يختصّ بالغذاء والدواء والإغاثة والإسعافات الأولية غير مشمول في قانون قيصر، بالإضافة إلى أن مؤسّسات الأمم المتحدة المختصة حاضرة في دمشق، وتعمل من خلال مكاتبها الرسمية. وقد نشرت بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سورية رداً على حملة التضليل الراهنة، ولا سيما ادّعاء إن عقوباته تمنع إيصال المساعدات الإنسانية، فذكرت بأنها لا تؤثر على المساعدات الإنسانية، ولا تنطبق على إيصال المواد الغذائية والأدوية والمعدات الطبية والإسعافات الأولية للاستجابة الأولى للزلزال.
كل ما يختصّ بالغذاء والدواء والإغاثة والإسعافات الأولية غير مشمول في قانون قيصر
إصرار حليف النظام الروسي، طوال السنوات الماضية، على جعل الأسد يسيطر على إمدادات المساعدات، وجعلها تمرّ من خلاله، ولا سيما منها الموجهة إلى المناطق الخارجة عن سيطرته في الشمال الغربي تحديداً، حيث يعيش أكثر من أربعة ملايين نازح، يفضح مسؤوليه وإعلامه، ويزيح الغطاء عن طبخةٍ فاسدة وراء هذه الهمروجة، فالقصة مبنيةٌ على وجود المساعدات التي تصل إلى البلاد، ويريد أن يسيطر على توزيعها، ليستفيد مادّياً وسياسياً وميدانياً منها، وجعلها أداة ضغط وتجويع للمعارضين، وليست مبنية على عدم توفرها.
أي عقل شيطاني هذا الذي يعمل في دمشق، فيجعل من كل شيء، ومن أي حدث، سبيلاً للاستفادة على المستويات كافة؟ النظام الذي ارتكب جرائم غير مسبوقة في التاريخ البشري ضد شعبه، والذي يفعل كل الممكن من أجل التربّح، حتى بيع جثامين من يقتلهم في المعتقلات إلى أهاليهم، الذين يريدون دفنهم بطريقةٍ لائقة، ويفلت من العقاب، بقرار المجتمع الدولي، أو بعجزه، على حد سواء، يدّعي أمام الشعب المنكوب بوجوده حاكماً منذ ستين سنة، لا يمكن أن تكون السيالة العصبية التي تجري في دماغه ذات طبيعة إنسانية!
إنها نسغ شيطاني، يلتهم ضحاياه، ويريد من طائفة السذّج، وأيضاً ممن يشتركون معه في هذا التكوين، أن يساعدوه ليحصل على الثمرة الكاملة. لقد دمّر البلاد وأفنى العباد، وعلى العالم التراجع عن أفعاله، وأن يأتي إليه معتذراً، وربما بعد ذلك يصفح عن معاقبيه!