حين تصبح بلاد الثورات جمهوريات موز
ليس سهلاً بناء تصوّر أن دول المنطقة العربية التي شهدت ثورات، بدأت في نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، واستمرّت تداعياتها، آلت أمورها لتصبح "جمهوريات موز"، فهنا، يحتاج المرء إلى القيام باستبدالات، بين تفاصيل قصة هذه الجمهوريات، في زمانها وفي بيئتها الأميركية اللاتينية، وواقع حال بلدان الربيع العربي.
لكن، في نهاية الأمر، وما دامت القصة تنتهي، عند تحكم شركة ما، أو جهة ما، أو نزعة ما، في مصائر مئات الملايين من البشر وحيواتهم، يستوي الحال، عند اعتبار أن الفكرة العميقة من السردية التاريخية، الخاصة بتلك البلدان، التي عاشت زمناً قبيحاً جداً، تنطبق، بشكل ما، على تونس وليبيا ومصر واليمن وسورية وغيرها، إذ لا يمكن إجراء مقاربة عن واقعها، إلا من خلال البدء مما انتهت إليه، محاولات الشعوب تغيير أحوالها!
ما يستدعي هذه النظرة التقييمية السوداوية والمتشائمة، لا يبدأ من آخر الأحداث العابرة، التي جرت قبل أيام، وفي غفلة، أو لنقل؛ لا مبالاة من الإعلام العربي، المنشغل، بجرائم دموية كارثية، يرتكبها الكيان الصهيوني في فلسطين ولبنان، ففي تونس الخضراء، حيث ولد "الحلم الثوري العفوي" بالتغيير، إلى المستقبل الأفضل، استطاع الرئيس قيس سعيّد الاستيلاء، على كرسيه التسلطي، مرّة أخرى، ولكن عبر صناديق الاقتراع، بعد أن قام بانقلابه على الدستور والديمقراطية، حين قرّر تجميد البرلمان، وحل الحكومة، وسلسلة من القرارات الاستثنائية، في 25 يوليو/ تموز 2021، ليكون هذا، أول خطوات، تتالت لاحقاً ضد القوى السياسية، ولتعود البلاد إلى الأوضاع التي كانت تعيشها قبل ثورة عام 2010.
استطاع الرئيس قيس سعيّد الاستيلاء، على كرسيه التسلطي، مرّة أخرى، ولكن عبر صناديق الاقتراع، بعد أن قام بانقلابه على الدستور والديمقراطية
الثابت فيما يجري هنا، أو في مصر، وحتى في البلدان التي ما تزال تعيش صراعات داخلية، كليبيا واليمن وسورية والسودان، أن القوى التي تهيمن على السلطة، لا تعذّب المتابع لأمورها، في سعيه لفهم ما يجري، فهي تُشعرك، بذاتها، أنها تعمل لحساب قوى خارجية، ضمن صيغة مبسطة، قوامها أن صاحب الأمر والنهي، يعيد إنتاج الديكتاتور الذي تمت إطاحته، ويفرض سياساته ذاتها، بحجة الحفاظ على وحدة الوطن، والاستقرار الداخلي، بعد أن أدّت الثورات، بحسب ادعاءات المتضرّرين منها، إلى وصول البلاد والعباد إلى حافّة الهاوية.
الديكتاتور الذي يأتي كالعادة من صفوف الجيش والقوات المسلحة، يلبس حالياً ثياباً مدنية، كي يقول للجمهور إنه يقوده من عتبة السياسة، بينما يحاول الذين أتوا من قطاعات مدنية في الأساس، ارتداء ثياب العسكر، ويستمرئون منح أنفسهم النياشين والأوسمة!. قيس سعيّد مثال الحالة الأخيرة، والتسلط في المثال التونسي، قريب جداً من حالة جمهوريات الموز، إذ تدار تصرّفات الديكتاتور، من الخلف، فيصبح ممثلاً للمستفيدين من غياب الديمقراطية في بلدان المنطقة، ما دامت أنها قد تنتج خيارات سياسية مختلفة، عن تلك التي تفرضها الأنظمة التسلطية، فهو يقود المعارضين إلى السجن، ويفرض نفسه مرشحاً شبه وحيد للرئاسة، مع وجود إكسسوارات مشهدية، كخلق حالة تنافسية مع مرشحين، لا وزن لهم فعلياً، في الشارع.
وبحجة الحفاظ على الأمن، يقدم نفسه للمجتمع الدولي، ولا سيما الدول الأوروبية الأكثر تأثراً بالوضع التونسي، بوصفه الحلّ الوحيد المتاح. ورغم أن صفحته في مجال الحريات والديمقراطية، باتت مليئة بالملاحظات وبعلامات الرسوب، لكنه لا يواجه ما يكفي لردعه، عن ارتكاب الحماقات ضد "التوانسة" ممن باتوا يعيشون كابوس القمع المتجدد، بعد أن عاشوا زمناً قصيراً من الحرية.
أدّت الثورات، بحسب ادعاءات المتضرّرين منها، إلى وصول البلاد والعباد إلى حافَة الهاوية
لكن الأسئلة، حيال النهايات البائسة للثورات، تنتهي دائماً بالسؤال عن رأي الشعوب، بما يُفرض عليها، فماذا عن الـ 90% من أصوات الناخبين التي حصل عليها سعيّد؟ ضمن حالة المقاطعة التي خيمت على هذه الانتخابات، من قبل غالبية القوى السياسية، ومعها الهيئات الحقوقية، ومنظمات المجتمع المدني، فإن مشاركة 28% فقط من الناخبين، تعني قبل أي شيء، أن جماعة المستفيدين من هذا النظام، قادت آخرين، بحجة الحفاظ على الأمان، نحو منح هذا المرشح، ما يكفي من التأييد، للحفاظ على ماء الوجه، أمام زملائه من الحكام، الذين تذوقوا حلاوة الحصول على نسب مهولة، من الناخبين في انتخاباتهم الكاريكاتورية!
يمكن، في حال التعمق بالهاوية، التي ترزح تحتها أحوال هذه البلدان، تلمس أن الثورة المضادّة، وبرعاية دول بعينها، صارت شركة عملاقة، بأفرع متعددة، وفي كل فرع يتم إنتاج الطغاة، وأدوات سيطرتهم المحلية، ولعل الفاجعة التي يسجل التاريخ نتائجها، أن هامش عمل هذه الواجهات المحلية، وحيث تتعثر أموره أحياناً، يمكن أن يواجه خسارة، لفاقد ما، سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي.. إلخ.
غير أن ما يكشفه المثال التونسي، وبعد الأمثلة التي سبقته، يضعنا في مواجهة حقيقة مؤلمة، تقول تفاصيلها إن هذه البلاد صارت كلها فاقداً، وإنها تمضي حثيثاً نحو التلاشي والعدم، وكأنها جزر منسية في أعماق المحيط.