عن ممثلٍ أحرق نفسه ومات
أحرق الممثل المغربي، أحمد جواد، نفسه، صباح يوم المسرح العالمي 27 مارس/ آذار، أمام مقرّ وزارة الثقافة في الرباط، احتجاجاً على تردّي أحواله المعيشية، وعدم تحسينها بعدما تقدّم بطلبات متكرّرة من أجل ذلك، الأمر الذي جعله يشعر بالإهانة، بعد أن قضى عمره في خدمة عمله والقضايا السامية على خشبة المسرح، لكن محاولات إنقاذه في أحد المستشفيات لم تُجدِ، ففارق الحياة لاحقاً متأثراً بحروقه.
المَشاهد التي يظهرُ فيها أشخاصٌ يحاولون إطفاء النار في جسد رجلٍ محترقٍ تم تداولها بشكل واسع على شبكات التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يعني أن مئات الآلاف وأكثر من المتابعين قد رأوا ما حدث، لكن صدى القصة لم يبلغ مرتبة "الترند"، فلم يُسمع بالقصة في الأوساط الفنية والثقافية العربية، وربما كان السبب أن الرجل ممثل مسرحي، وليس تلفزيونياً أو سينمائياً، بالإضافة إلى أنه ليس مطرباً، أي أن حظه من الشهرة محدود، كما أن المكان الباهت والتوقيت الرمضاني لم يكونا مساعديْن للوصول إلى دائرة الاهتمام.
صار المسرح من عوالم الهامش، وأمور المشتغلين فيه هامشية أيضاً، ولهذا بات فعل الاحتجاج في الواقع الحياتي احتراقاً هامشياً بالمعية، رغم أن البلاغة المسرحية لطالما ازدهت بأن الممثل يحرق روحه على الخشبة. وبعد هذا كله، يصبح الوصول إلى الموت مجرّد اكتمال لحلقة القصة التي ستنسى في السياق!
قبل 12 سنة وعدة أشهر، أحرق بائع فاكهة تونسي، اسمُه محمد البوعزيزي، نفسه في سوق الخضار بعد أن أهانته مراقبة بلدية، وتسبّبت الواقعة باندلاع أكبر موجة احتجاج شهدتها المنطقة، وسمّيت الربيع العربي بناء على قراءة لأهدافها، والتي كانت كرامة الإنسان عنواناً عريضاً بينها، لكن ما جرى، بعد أن تكالبت كل القوى الكارهة للحرية ضد أحلام المحتجين، أدّى إلى أن تصبح كرامة الإنسان آخر ما يُنظر إليه أو يُهتم به، لقد تحوّلت حيوات الناس إلى جحيم كامل بسبب سياسات قوى الأمر الواقع، وكأنهم يعاقَبون على ما فعلوه في كل بقعة ثاروا فيها!
غياب التضامن، والاندماج مع آليات السلطة، والاستكلاب على جمع المال، وتحصين الذوات بالشهرة، باتت هي ملامح المشهد العام
لم يفكّر الممثل الراحل ربما بتمثل سيرة البوعزيزي وفعله المباغت الصادم، فقد هدّد سابقاً بأنه سيحرق نفسه احتجاجاً، ما يعني أنه كان يمكن منعه من فعل ذلك، وقبل هذا كان بإمكان الجهة التي يحتج عليها، أي وزارة الثقافة، أن تبادر إلى حل الإشكال وإظهار اهتمامها بكرامة الرجل، حتى وإن ظن القائمون عليها أنه فاقد لقواه العقلية لكنهم لم يفعلوا! كما أن المُفجع أكثر هو التعاطي مع الحدث وكأنه يجري في كوكب آخر، وليس أمام مقرّ عملهم، والاكتفاء بإصدار بيانٍ لم يُذكر فيه اسم الممثل، والإعلان لاحقاً أنهم سيتابعون حالته التي انتهت نهاية مُحزنة، تُلحق الخزي بكل من تقاعس عن منعها.
ما جرى في المغرب كفعل احتجاج جرى مثله بأشكال أخرى في بلدان عربية أخرى، لكن حدود الجرأة منعت فنانين آخرين من أن يفعلوا ما فعله أحمد جواد، وبدلاً من ذلك عاشوا الاحتراق الداخلي الذي حوّلهم إلى مشاريع موتى بسبب القهر، تتسابق الأيام في نقل أخبار رحيلهم عن دنيانا!
قبل فترة وجيزة، ناشد الممثل السوري وضّاح حلّوم بأسلوب ميلودرامي رئيس النظام السوري أن يتدخل من أجل إيقاف الكارثة الاقتصادية التي حلّت بالسوريين الذين يعيشون في مناطق سيطرته، وتعاطف المتابعون مع وجعه، لكن النظام وجد الحل له بأن أرسله مع عائلته إلى طهران، ليحلّ ضيفاً على عائلة إيرانية، ضمن برنامج تبادل إقامات عائلية ترعاه إحدى المؤسسات الحكومية!
تحوّلت حيوات الناس إلى جحيم كامل بسبب سياسات قوى الأمر الواقع، وكأنهم يعاقَبون على ما فعلوه في كل بقعة ثاروا فيها!
لم يُرِد أحدٌ لهذا الممثل أو لغيره أن يصل إلى هذا المستوى من الانسحاق، وربما لو لم يقل ما قاله أمام الكاميرا، وبغض النظر عن رأينا بالأسلوب وبالشخصية التي يتوجّه إليها بالرجاء، لقضى نحبه كغيره من الفنانين في حقول الفن والثقافة، الذين تتكرّر فجيعة فقدانهم من دون أن نلحظ وجود ردّات فعل في أوساط زملائهم، ولعل قصّة المسرحي المغربي تؤشّر إلى وجود حالة فساد أخلاقي هائل في البيئة التي كان يعمل فيها، وهي تشبه البيئات المماثلة في أغلب البلدان العربية، فغياب التضامن، والاندماج مع آليات السلطة، والاستكلاب على جمع المال، وتحصين الذوات بالشهرة، باتت هي ملامح المشهد العام، ولعلّ ما يُظهر التباين الفظيع في هذه الأوساط حقيقة أن من تعاطفوا مع المغني المحكوم بتهم الاغتصاب سعد لمجرد صمتوا تماماً أمام هذه الحادثة!
رغم أن الآمال كانت دائماً ما تعلق على وجود فنانين يعملون على قضايا المجتمع ليكونوا أصواتاً للضحايا والمهمّشين والفقراء والمقموعين، إلا أن الواقع الحالي يُظهر كيف أن شريحة أصحاب المواهب باتت مرآة لواقع المجتمعات، حيث القلة المستأثرة بكل فرص العمل والحضور والاهتمام، والأكثرية التي بلغت حدّ الفاقة والعوز، تنتظر موافقات في هذه الوزارة أو تلك، لمنحها رخصة العمل والموافقة على النص، قبل أن تحرق أيامها بانتظار ربيع آخر.