غياب الصدريين
تمثّل لحظة انسحاب التيّار الصدري من البرلمان العراقي في أغسطس/ آب 2022 حداً فاصلاً ما بين مرحلتين في الحياة السياسية العراقية، أو على الأقل نهاية لمرحلة وبداية مرحلة جديدة كليّاً، لا يعرف أحد كم ستطول، أو متى تنتهي لتبدأ مرحلةٌ جديدةٌ مجهولةٌ حالياً.
هناك من يتوقّع (أو يؤمّل نفسه) بعودة الصدريين إلى الحياة السياسية في المرحلة المقبلة، وربما يؤرّخون لذلك في موعد الانتخابات البرلمانية المقبلة، استناداً إلى تخمين أن هذا التيار السياسي صاحب الثقل في الحياة السياسية العراقية لن يتحمّل الضرائب المتزايدة لغيابه عن المشهد لدورتين انتخابيتين، ففي العرف السياسي السائد أن من يغيب عن المشهد يتراجَع أكثر وأكثر. ولكن، هل ينطبق هذا العرف على التركيبة الخاصة للتيّار الصدري، وهل هو، كما أحزاب أخرى، ينتعش داخل مؤسّسات الدولة، ويتلاشى أو يكاد حين يخرُج منها؟
أينما تذهب التخمينات، في العودة القريبة، أو الاستمرار في الغياب فترة طويلة، فإن غيابه هو إفقار للمشهد السياسي العراقي، بل يمكن القول إنه ضربة حاسمة لمشهد التنوّع الذي بدأت به الحياة السياسية العراقية ما بعد 2003، فغياب الصدريين هو المحطّة الأخيرة في سلسلة غيابات سابقة، أو انحسارات وتضاؤل في الدور والثقل السياسي لتياراتٍ وكياناتٍ، لعل من أشهرها حركة الوفاق الوطني لإياد علاوي، والمؤتمر الوطني لأحمد الجلبي. كما أن العقد الأخير شهد تراجع تيار سياسي كان كبيراً، ويكاد يقتسم المشهد السياسي الشيعي بالنصف، مع غيره من الأحزاب الشيعية، وهو المجلس الأعلى الإسلامي.
كما أن حزباً مثل الحزب الشيوعي العراقي كان له حضور أكبر، وقد تقلّص دورُه إلى مقعديْن في البرلمان، ثم الغياب التام عن البرلمان الأخير، وجاءت كل هذه الغيابات لصالح تضخّم طرف سياسي، رغم تنوّعه ما بين تياراتٍ ومجموعاتٍ سياسية متصارعة أحياناً ومتحالفة أحياناً أخرى، إلا أنهم يمثلون جميعاً لوناً سياسياً واحداً، انتظم أخيراً تحت يافطة "الإطار التنسيقي".
المشهد الجديد الذي برز بعد غياب التيار الصدري هو انفراد الرؤية السياسية لأحزاب "الإطار التنسيقي" بالقرار السياسي، إلى درجة لم تكن مسبوقة منذ 2003. ... في العُمق، تبدو كل هذه التنويعات السياسية عالقةً في الأزمة البنيوية للنظام السياسي، المؤسّس على المحاصصة الطائفية والحزبية، وعلى اقتسام المنافع العامة، وعلى إدامة الاقتصاد الريعي، واستخدام موارد الدولة لشراء الذمم، وتطويع القوانين ومصادر القوة لإسكات الخصوم. والدوران في حلقة مقفلة من التنافس البيني مع تعليق إجراءات بناء المؤسّسات أو تدعيم سلطتها، لتكون هي الحاكمة في البلد، وليس أهواء الساسة ومصالحهم.
والتيار الصدري، من دون شكّ، أحد هذه الأطراف السياسية العالقة في هذه الأزمة، على الأقل منذ إلقائه السلاح وقبوله الدخول في العملية السياسية، ولكن وجود هذا التيار ذا الثقل الكبير، كان يُنتج نوعاً من التوازن مع الطرف الآخر الذي يتشارك معه الحيّز الاجتماعي والطائفي، ومن الفضاء المحدود الذي يُحدثه هذا التوازن كان ينتعش هامش من الحريّة، بات اليوم شبه معدوم.
يكاد ينقسم النشطاء الشباب المدنيون إلى فريقين في تصوّرهم لدور التيار الصدري أو العلاقة معه، يمكن أن نصف الطرف الأول بالبراغماتي، والذي يرى أهمية التعامل مع التيّار الصدري والتفاهم معه، على الأقل على أرضية الانتماء للعراق، وليس لطرفٍ خارجي. والطرف الثاني يمكن وصفه بالراديكالي، ينظر إلى أن التيار الصدري كان حاجباً ما بين النظام وضغط المجتمع والنخب المدنية الناقدة والمعترضة على أخطاء النظام السياسي، وأنه كان ينقذ النظام في كلّ مرّة، وأنه شريكٌ في أخطاء النظام، وليس طرفاً محايداً.
المفارقة أن الطرف الراديكالي في مجتمع النشطاء الشباب كان يستفيد، بشكلٍ غير مباشر، من هامش الحرية الذي يُحدثه وجود التيار الصدري. وعلى الرغم من استهداف الصدريين بعضهم في بعض المحطّات، كما في احتجاجات تشرين (2019)، إلا أن هؤلاء النشطاء لا يستطيعون الحديث اليوم، بسبب انفراد "الإطاريين" بالسلطة.
يمثل غياب الصدريين، كما هو مفهوم، نوعاً من الاحتجاج على النظام السياسي، الذي أفشل حقّ هذا التيار، باعتباره الفائز الأول في الانتخابات الأخيرة، في تشكيل الحكومة. ومن الضروري أن يكون هناك تفاهم ما بين المعترضين على النظام، إن كان لديهم أمل بالتغيير حقاً، ولم يبلغ اليأسُ حدود العدمية المطلقة.