غياب الاهتمام بالتخطيط السكاني في القدس
منذ احتلال إسرائيل لها عام 1967 واجه سكان مدينة القدس معضلة قانونية، خصوصاً بعد قرار إسرائيل الأحادي بتوسيع القدس الشرقية وضمها، في 1980، وقد كانت قبل الاحتلال كبقية الضفة الغربية تابعة للأردن. فمن الناحية القانونية، تعتبرهم إسرائيل مقيمين دائمين وليسوا مواطنين (سوى لعدد صغير تقدّم لطلب جنسية وهذا مسموح، لكن القبول به ليس أوتوماتيكياً). وقد ركّزت دراسات وتقارير صحافية كثيرة على الوضع القانوني للمقدسيين، في ظلّ محاولات إسرائيل نزع الإقامة، لأسباب مختلفةٍ كلها مخالفة للقانون الإنساني الدولي. تنزع إسرائيل بطاقة هوية (وإقامة) من يغيب عن المدينة سبع سنوات وأكثر، تحت بند أن القدس لم تعد مركز حياتهم. ولا يزال غالبية المقدسيين يحملون جوازات سفر أردنية غالبيتهم مواطنون غير أردنيين فيما توفر سلطات الاحتلال وثيقة سفر محدودة المدة (خمس سنوات) لمن يريد السفر عبر مواقفها الدولية. وفي كل الأحوال، أصبح المقدسيون مثل "البدون" أي أنهم أيتام من الناحية السياسية، حيث يُمنعون منذ توقيع اتفاق أوسلو من التواصل الرسمي مع القيادة الفلسطينية، وفي الوقت نفسه، يُمنعون من التنظيم السياسي الذاتي أو حتى إقامة تجمعات محلية، من خلال تطبيق مبالغ به في قوانين الدفاع البريطانية لعام 1945.
وعلى رغم التركيز الإعلامي والبحثي على الفرد المقدسي، هناك نقص كبير في المواضيع المتعلقة بعمل المقدسيين وسكنهم سوى الاهتمام بهدم البيوت غير المرخّصة، والقول، وهو صحيح، أنّ إسرائيل لا توفر تراخيص للمقدسيين.
ومع مرور أكثر من خمسة عقود على هذا الحال، ومجموعة الإجراءات الإسرائيلية، خصوصا الجدار داخل حدود المدينة المقدسة، أصبح موضوع العمل والسكن ذا أهمية أكثر من الهوية. فمن دون عمل وسكن، لا يبقى للمقدسي خيار سوى الخروج، إما إلى باقي مناطق الضفة الغربية أو الهجرة إلى الخارج.
رغم مرور 55 عاماً على الاحتلال والضم، لم توافق بلدية القدس وباقي اللجان ذات الشأن على بناء أي حي جديد للفلسطينيين في القدس
وتوفر السياحة وإمكانية العمل في أي منطقة في إسرائيل (ما قبل 1967) فرصاً معقولة للمقدسيين، إضافة إلى إمكانية العمل في باقي مدن الضفة الغربية، رغم الاختلاف في تكلفة المعيشة. لكن السكن في القدس يبقى الحلقة الأكثر ضعفاً، والتي في حاجة إلى اهتمام معمّق وجدّي. ويعتبر موضوع السكن في ما يخص الفلسطينيين من سكان القدس الشرقية موضوعاً معقّداً تتداخل فيه اللجان المحلية والقُطرية والحكومة الإسرائيلية. ولذلك، رغم مرور 55 عاماً على الاحتلال والضم، فإنّ بلدية القدس وباقي اللجان ذات الشأن لم توافق على بناء أي حي جديد للفلسطينيين في القدس، رغم الموافقات والدعم الرسمي لعشرات الأحياء الاستيطانية، والتي يسكن فيها حالياً مئات الآلاف من الإسرائيليين.
وحسب الإحصائيات الرسمية الإسرائيلية لعام 2022، فإنّ مساحة القدس الشرقية 70 كيلومتراً مربعاً، ويعيش 215 ألفاً من المستوطنين اليهود على مساحة 34 كيلومتراً مربعاً من الأراضي المصادرة في القدس الشرقية، بينما يُسمح للسكان العرب البالغ عددهم قرابة 400 ألف نسمة بالعيش في العشرة كيلومترات المتبقية والمخصّصة للاستخدام السكني. والمؤلم في الموضوع، وحسب خبراء تخطيط، وجود ما يقرب من 60 ألف وحدة سكنية في جانب القدس من جدار الفصل، في حين أن ما يقدر بنحو 70.000 وحدة انتشرت في الغرب، أي جانب بقية الضفة من جدار الفصل (لكن داخل حدود البلدية الإسرائيلية) في الأحياء، مثل كفر عقب وأم الشرائط وسميراميس.
يشكل وجود أراضي مشاع صعوبة في قدرة أي جهة على تقديم مخطّط متكامل
وفي بحث معمّق، أنجزتُه لصالح موقع Jerusalem Story بالإنكليزية، التابع للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تبين غياب أي اهتمام من الجهات الفلسطينية والعربية والدولية لمشكلة التخطيط السكاني للفلسطينيين في القدس الشرقية. ورغم أن للاحتلال وسياساته الأثر الأكبر على الوضع السكاني وغياب تخطيط سكاني، فإنّ هناك صعوبات أخرى. في التخطيط على سبيل المثال، عدم وجود مناطق مفتوحة واسعة يمكن من خلالها تقديم مشروع حي متكامل، يتم إعادة توزيع الحصص، لكي يستطيع المخطّط السكني توفير مناطق خضراء وأماكن عامة طبعا في عكس ذلك ما يقوم به المحتل، والذي يصادر مناطق واسعة، وبذلك من السهل عليه أن يوفر مخطّطا مهنيا متكاملا. كما يشكل وجود أراضي مشاع صعوبة في قدرة أي جهة على تقديم مخطّط متكامل.
في فترة الانتفاضة الأولى، ومع وجود قيادات مقدسية، مثل فيصل الحسيني وسرّي نسيبة وحنان عشراوي، ومن خلال موقع بيت الشرق، تم إعطاء موضوع التخطيط السكاني اهتماما، إلا أن وفاة فيصل الحسيني المفاجئة عام 1999، ثم إغلاق بيت الشرق، دفنا تلك المحاولات بشكل عام، رغم وجود نشاطاتٍ استمرّت بصورة فردية، وفي الغالب بدعم دولي.
إحدى تلك المبادرات كانت مركز التعاون والسلام الدولي. يقول مؤسّسها، رامي نصر الله، إن المركز مؤسسة فلسطينية أهلية مستقلة وغير ربحية، تأسّست في القدس عام 1998، وبدعم من الرئيس ياسر عرفات وعضو مركزية حركة فتح هاني الحسن. وقد عملت على الاشتباك الإيجابي لإعداد مخطّطات تفصيلية بمبادرة مجتمعية لوقف هدم البيوت بحجّة عدم الترخيص، وتوفير تخطيط مناسب يمنح حقوق بناء وفق الاحتياجات التطويرية والزيادة الكبيرة لعدد السكان.
الكل يرفع القبّعة ويغنّي للقدس والمقدسيين، ولكن الواقع على الأرض لا يعكس الأشعار والشعارات التي تُلقى في المؤتمرات وعبر الفضائيات
كان أحد أهم مشاريع المركز بالتخطيط لإقامة حي جديد، هو الأول من نوعه منذ الاحتلال الإسرائيلي في العدّاسة من أراضي بيت حنينا والمملوكة لعائلاتها. وقد تم وضع مخطّط للحي يتسع إلى 2500 شقة سكنية. ورغم تشجيع أولي من بعض الجهات المتعلقة بالتنظيم ذات العلاقة، وبعد مرور 15 عاما على تقديم المخطّط، قرّرت بلدية القدس الاسرائيلية رفض المشروع، ثم تبين أنه جرى تجميد المشروع سابقا، ولم يتبدل هذا القرار، رغم الوعود الإيجابية. فحسب ما جاء في صحيفة هآرتس، جاء التجميد لأسباب سياسية، حيث ينوي رئيس البلدية إعادة الترشّح لفترة مقبلة. وستعقد الانتخابات البلدية في شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل. ومنذ عام 1967، والجانب الفلسطيني يقاطع الانتخابات البلدية الموحدة، فقرار الضم والتوحيد مخالف للقانون الدولي، لأنه لا يحقّ المحتل تغيير الوضع القائم.
رامي نصر الله مستمرّ من خلال مركزه الذي تراجع عدد المهندسين والمخطّطين العاملين فيه بالعمل رغم المعاناة، فقد توقف معظم الدعم الدولي بسبب الضغوط الإسرائيلية على المموّلين، في حين يرفض العرب تقديم أي مساعدة، لأن المركز مضطر للتعامل مع بلدية الاحتلال للحصول على التراخيص، والسلطة الفلسطينية محظور عليها التعاون أو تمويل أي أمر في القدس.
وضع القدس والمقدسيين في غاية من الأهمية، وللأسف هناك تجاهل كبير لمشكلة غياب أي تخطيط للعيش والعمل والسكن في القدس. ويحتاج موضوع السكن في المدينة قراراتٍ جريئة يتخوّف الغالبية من اتخاذها خوفا من تهمة التطبيع أو الاعتراف بضم القدس، رغم أن من المستحيل لأي فلسطيني أن يبقى في القدس من دون نوع ما من التعامل مع القوى المحتلة، وخصوصا البلدية، فالكل يرفع القبّعة ويغنّي للقدس والمقدسيين، ولكن الواقع على الأرض لا يعكس الأشعار والشعارات التي تُلقى في المؤتمرات وعبر الفضائيات.