غزّة وفلسطين ويومنا التالي
لا تعني خطط (وسيناريوهات) "اليوم التالي" للحرب على قطاع غزّة، التي قرّرتها مبكّراً دولة الاحتلال الإسرائيلي بالتنسيق مع الولايات المتّحدة، أهلَ هذا القطاع أو الفلسطينيين وحدهم، بل إنّ مشهد توحُّش دول الغرب، وعودة روح الاستعمار القديم إلى قادته ومؤسّسات صنع القرار فيه بعد "طوفان الأقصى"، تُنبِئُ أنّ اليوم التالي سيعنينا جميعاً في المنطقة العربية والمحيط، وربما سيعني كثيرين في العالم، تتأثر حياتهم الهشّة بكلّ مُستَجِدٍ مهما كانوا بعيدين عنه. من هنا، يمكن القول إنّ يوم فلسطين التالي هو يومنا، ومستقبلها هو مستقبلنا، وهو ما سيحدّد صورة حياتنا المقبلة وشكلها، كما حدّدت حوادثُ أخرى راهننا. وقد يرى كثيرون في الكلام مبالغةً، وأنهم في منأىً عن تداعيات الحرب ونتائجها، إلا أنّ ما بانَ من خططٍ وما يتسرَّب تباعاً يجعل الكلام واقعياً وبمثابة إنذار، إن لم يكن لصنّاع القرار في منطقتنا فللشعوب لكي تعي، والأكثر أهميّة، لكي تحتاط للمقبل الآتي سريعاً.
توالت الحوادث التي حدّدت تاريخ الدول العربية المعاصر في العقود الأربعة الأخيرة، وعلاقاتها البينية، وحجم التنسيق بينها، وشكل النظم السياسية فيها، والمساحة التي يُسمح لها أن تتحرّك ضمنها وتنفّذ خطط التنمية المستقلّة الخاصّة بها، وتقيم المؤسّسات التكاملية التي كانت تتوق إليها شعوبها. كما حدّدت درجات مَنَعَتِها تجاه المخاطر المُحيطة، وهي درجاتٌ قَلَّتْ وتضاءلت حتى أضحت هذه الدول تستجير بعدوّها القديم الذي سرق أرض فلسطين، ضدّ أخطارٍ تواجهها ومكائدَ تتربّص بها، وتراها هي، وللمفارقة، بعيدة عن أصابع هذا العدوّ. ولا مبالغة في القول إنّ أولى تلك الحوادث وأخطرها كان خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان بعد اجتياح القوات الإسرائيلية هذا البلد واحتلال عاصمته بيروت، في خريف عام 1982، حين خُطَّت أولى السطور في تراجع الكفاح الفلسطيني المسلّح مقدمةً لتصفية المشروع الوطني الفلسطيني، الذي أدّى بعد ذلك إلى اتفاقيات الحلّ على الطريقة الأميركية والإسرائيلية، التي أسّست بدورها لأن يكون ذلك الحلّ مستحيلاً.
ما تعانيه الدول التي شهدت الثورات من انهيار حالي يُعدّ عقاباً للشعوب لا يمكن أن تكتفي به القوى الدولية التي رأت في ذلك الربيع نزوعاً استقلالياً
يمكن القول إنّ اجتياح العراق الكويت واحتلالها، في 1990، كان بداية انهيار العراق كما نعرفه، وكذا النظام العربي. جاءت حرب تحرير الكويت التي شنّها التحالف الغربي بزعامة الولايات المتّحدة، وهزيمة العراق في العام التالي، فوضعت أمن البلدان العربية واستقرارها في أيادي القوى الدولية حين استقرّت القوّات الأميركية في الخليج. ثم كان الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، بمثابة الهزيمة للعرب جميعاً، وجعلهم عراةً أمام الأخطار الخارجية والتحدّيات الداخلية، حين أصبح مستقبل هذه الدول بأيدي دول الغرب ترسمُه كما ترى، وتقرّر له ما يلزم وما لا يلزم.
وإذا كان انتصار الثورات المضادّة بعد انطلاق موجات "الربيع العربي" في عام 2011 يُعدّ تحصيل حاصل بسبب تكاتف الجميع ضد إرادة شعوب دول ذلك الربيع، فإنّ ما تعانيه الدول التي شهدت الثورات من انهيار حالي يُعدّ عقاباً للشعوب لا يمكن أن تكتفي به القوى الدولية التي رأت في ذلك الربيع نزوعاً استقلالياً. وتبيّن أنّ العقاب المقرّر لم يستثنِ حتى الأنظمة القريبة من الغرب والإسرائيليين، وها قد أتت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة لتجعل الجميع في الدول العربية يدفعون الثمن.
بعد "طوفان الأقصى"؛ نزعت أوروبا عن وجهها قناع الليبرالية والاحترام وقدسية حقوق الإنسان، واعتمدت المكارثية ضد معارضي الحرب على غزّة
بعد "طوفان الأقصى"، بدا الجميع واضحاً؛ نزعت أوروبا عن وجهها قناع الليبرالية والاحترام وقدسية حقوق الإنسان، واعتمدت المكارثية ضد معارضي الحرب على غزّة، وعادت إلى الهمجية والتوحّش حين أعطت الكيان الإسرائيلي رخصة القتل، وأمدّته بالأسلحة المناسبة لتنفيذ الإبادة الجماعية في حقّ أهالي غزّة لتكتمل أركانها، وضمنت له الإفلات من عقاب مؤسّسات القانون الدولي. كما كان الإسرائيليون واضحين حين أظهروا حقيقتهم، ولم يخجلوا منها أمام المطبّعين القديميْن، مصر والأردن؛ ستهجّر إسرائيل الفلسطينيين من غزّة إلى سيناء ليقيموا في مخيّمات أو ينصهروا في نسيج المجتمع المصري ويفقدوا هويتهم الفلسطينية، وكذلك من الضفّة الغربية إلى الأردن، ولا يمكن لهذين البلدين أن يعترضا. أما أكثر النيّات حُسْناً فظهرت بصورة خطة الإبقاء على عدد محدد من الفلسطينيين في القطاع، بعد "القضاء على حماس"، وبعد إعادة بنائه بأموال دول الخليج وفق معايير إسرائيلية وإشراف غربي، وفرض إدارة تكون أكثر هواناً من إدارة السلطة الفلسطينية في الضفّة الغربية، وأكثر ضعفاً، وسيطرة الجيش الإسرائيلي على معابره، وكذلك إعادة الاستيطان الإسرائيلي إليه لضمان أن يفقد القطاع هويته وهوية سكّانه الفلسطينيتين، وبذلك تضمن إسرائيل إنهاء المقاومة في القطاع وفي الضفّة، لتهويدهما في النهاية بعد التطهير الشامل لهما، ومن ثمّ التفرغ للدول العربية.
قبل "طوفان الأقصى" لم يكن لأحد أن يصل فيه الأمر إلى حدّ تخيُّل أنّ أكثر الكوابيس رعباً قد تحقّق، وهو تحوُّل هذه الحكومات إلى المكارثية
ربما تُعدّ المقاومة الفلسطينية للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، ومن خلفه الاستعمار الغربي الذي عاد إلى الظهور بمظهر الاستعمار القديم، إحدى آخر حركات المقاومة لنظام التسلّط والهيمنة الدولي، إن لم تكن الأخيرة. وقد كان هجوم الحكومات الغربية على الحرّيات العامة وحرّية الرأي وعلى فكرة الديمقراطية، علاوة على الهجوم على المكاسب الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها، في داخل دولها بعد "طوفان الأقصى"، بمثابة تتويج هذا الهجوم الذي شرعت به مع تفشّي جائحة كورونا، وبعد غزو روسيا أوكرانيا، حتى بدت هذه الدول أشبه بالدول البوليسية التي عادة ما يكيل لها الغرب الاتهامات بسبب ملفّات انتهاك حقوق الإنسان فيها. وقبل "طوفان الأقصى" لم يكن لأحد أن يصل فيه الأمر إلى حدّ تخيُّل أنّ أكثر الكوابيس رعباً قد تحقّق، وهو تحوُّل هذه الحكومات إلى المكارثية حين أخذت تنبش في سجلات مواطنيها، واللاجئين فيها، في سياق التفتيش عن رأي فيه تعاطف مع ضحايا الإبادة في غزّة. وقد أصبح من ثم صاحب هذه المواقف متهماً بمعاداة السامية، حتى وإن كانت جريرته مجرّد إشارة إعجاب لمنشور يتحدث عن ضحايا المذبحة الإسرائيلية.
انتشرت في الغرب، بعد التظاهرات التي كسرت طوق المنع وخرجت تعارض الحرب على غزّة، تحليلاتٌ وتوقعاتٌ تفيد بأنّ النضال ضدّ الظلم الواقع على الفلسطينيين سيكون دافعاً إلى النضال من أجل الحفاظ على الحقوق السياسية وصيانة الحرّيات، وللحفاظ على المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية التي حصلت عليها الشعوب في الغرب، وصولاً إلى دولة الرفاه التي أخذت تتراجع فيه، والتي كانت جميعها ثمرة نضالها الطويل الممتد على مدى عقود. وانطلاقاً من فكرة أنّ المستقبل سيحدّده المنتصر، وهو سيكون مستقبلاً سمته التوحّش إن انتصر الإسرائيليون ونفّذوا خطتهم لليوم التالي في غزّة، فإنّ من شبه المحتّم أنّ انكسارغزّة سيكون مقدمةً لانكسار الجميع في المنطقة العربية، سواء كانوا مطبّعين أم رافضين للتطبيع، وسيكون انكساراً للشعوب الأخرى في العالم، لأنّ الجميع سيصبح ضحية دول التسلّط المتوحّشة ذاتها.