غزّة تدفع ثمن إجهاض الربيع العربي

11 ديسمبر 2023
+ الخط -

هذه المأساة الواقعة بأهل قطاع غزّة، وخطر التهجير الذي لا يمكن استبعادُه، هل كانا سيصيران بهذه الدرجة، لو لم يجر إجهاض الربيع العربي؛ بوصفه محاولةً شعبية للخلاص من أنظمةٍ عاطلةٍ عن العمل؟ 
هذه العطالة السياسية الحاكمة غير القادرة على التعامُل مع الوضع الكارثي المستمر، والمتفاقِم في قطاع غزّة، منذ شنَّت دولةُ الاحتلال حربَها العدوانية عليه، إذ لا تُقدِم هذه النُّظُم العربية على استخدام أيّ أوراق ضغطٍ حقيقية، وتترك دولةَ الاحتلال تستفردُ بأهل غزّة، حتى تُتِمَّ المهمة، على حدّ تعبير رئيس مصر، عبد الفتاح السيسي؛ أوضحُ الممثِّلين لمن جاءت بهم الثورةُ المضادَّة، المنقلِبة على إرادة الشعب المصري، مثلًا. هذه العطالة السياسية التي تتعايش معها هذه النُّظُم التي أخفقت في الداخل، كما أخفقت في التصدِّي لاستحقاقاتٍ خارجية، تمسّ أمنَها القومي، في الصميم، هذه النُّظُم هي التي نهضت شعوبٌ عربية للتخلُّص منها، فيما اصطُلح على تسميته "الربيع العربي"، فالموضوع، في الجوهر؛ استعادةُ الشعوب قرارَها، وإحياء حياتها السياسية، هذا هو المَعْنيّ بالربيع العربي، لا ما داخلَهُ، من حَرْفٍ في مساراته، ولا ما تبعه من احتواءاتٍ خارجية، آلتْ إلى تنفير قسمٍ من الناس، وحتى من المثقَّفين، منه، ومن استحقاقات انبعاثِه.
وحتى لو لم تصل تلك الحركةُ الشعبية، والاجتماعية السياسية، إلى كامل أهدافهما، فإنها لو نجحت في تخليق واقعٍ سياسيٍّ أقرب إلى الشعوب، بالدفع بنُخُبٍ سياسيةٍ حاكمة أقرب إلى نبض شعوبها، وأقلّ اعتصامًا بمؤسّسات أمنية مسبقة التكوين، والتصميم، فإنَّ تلك النُخُب الحاكمة كانت ستصير أقلَّ مجافاةً لمطالب الشعوب العربية التي تفاعلت، بما استطاعتْ مع ما حلّ بأهل غزّة وفلسطين، وأقلُّ ما تفعله، حينها، حرمانُ دولة الاحتلال، (وحتى دول كبرى، وفي مقدمها الولايات المتحدة التي توفّر لها الغطاء الدولي، وتقدِّم لها الدعمين، العسكري والمالي، غير المشروطين)، من هذه الدرجة العالية من الاطمئنان إلى "استقرار" الأوضاع العربية، من أن تُربِك مخطَّطاتِها الإستراتيجية الخطيرة.

تهجير قسمٍ كبير من أهل قطاع غزّة، إلى مصر، أو غيرها، وراءه، هدفٌ إستراتيجيٌّ، هو إجهاضُ أيِّ وجودٍ فلسطيني، راهن، أو مستقبلي

ذلك أن إسرائيل تعمل على تحويل المِحْنة إلى مِنْحَة، مِحْنَتِها التي ابتُليت بها؛ إثرَ عملية طوفان الأقصى، والتي أصابتها في الصميم، جيشًا، ودولةً، ومجتمعًا، ونقّبت عن أساس وجودها القائم على الاعتداء، القائم على أنقاض حياة شعب فلسطين، هذه الدولة، لم تهدف من حربها التي شنَّتها، فور تلك العملية الفلسطينية النوعية، الصادمة، إلى القضاء على حركة حماس، وعلى سلطتها، ولا حتى إلى مجرَّد الانتقام من البيئة الاجتماعية التي أنجبت هذه الظاهرةَ المقاوِمة، سواء من "حماس"، أو من سائر حركات المقاومة الأخرى، كما أن تهجير قسمٍ كبير من أهل قطاع غزّة، إلى مصر، أو غيرها، ليس الهدف بحدِّ ذاته، إنما وراءه، هدفٌ إستراتيجيٌّ، هو إجهاضُ أيِّ وجودٍ فلسطيني، راهن، أو مستقبلي، ولو كان وجودًا، مدنيًّا، غيرَ عسكري، أو شِبْهَ عسكري، وهذا ما تدلُّ عليه قائمةُ الأهداف الفعلية، حيث يجري تدمير أيّ مقوَمٍ من مقوّمات الوَحْدة الشعبية، الجمعية، سواء كانت تلك المقوِّمات ماديةً، كالبنية التحتية، والأسواق، والمشافي، والمصانع، وسائر البِنى الاقتصادية والمعيشية، أو كانت مقوِّمات ثقافية، كالمساجد، والجامعات، والمباني الثقافية التراثية؛ انتهاءً إلى حرمان أهل غزّة من مَشْهَديَّة بصَريَّة، يعرفونها، ويحبُّونها، ويألفونها، لبلدهم؛ كي يغترب عنهم الوطن، قبل أن يغتربوا هم عنه؛ لينطبق على ما تفعله إسرائيلُ بغزّة، بحقّ، وصْفُ "الإبادة الجماعية". 
وهنا أمران، يلزم التفريق بينها، من دون المغالطة بينهما: الأول، المقاومة، والثاني، مصيرُ البلد وأهله. مع أنَّهما كليهما متأثَّران بتغييب الفعل العربي الناجم عن غيبوبة السلطات العربية الحاكمة، أو تغييبها نفسها، لكن تضرُّر الشعب الفلسطيني في غزّة، أكبر والخطر الوجودي الواقع عليهم أكبر. فلو نظرنا في أداء المقاومة، فإنها لا تزال فاعلة، وهي بعيدة، وَفْق طبيعة بنائها القتالي، التنظيمي، وتكتيكاتها، عن تلقِّي ضربةٍ قاضية، بل هي لا تزال قادرةً على إطالةِ حربِ استنزاف، لا يمكن لدولة الاحتلال، وجيشها واقتصادها، ومجتمعها، التعايُشُ معها، طويلًا. ولكن هذه الحالة المقاومة ليست قادرة على منْع مخطَّطات دولة الاحتلال في الجانب المتعلِّق بالشعب الفلسطيني في غزّة، ليس فقط لجهة أعداد القتلى والجرحى، غير المسبوق، في صفوف المدنيّين، من حيث نسبته، بالقياس إلى مواجهاتٍ سابقة، ولكن لجهة تدمير أسباب الحياة الأساسية، وبهذا الحجم، والشمول.

يؤدِّي الدعمُ الدوليُّ الغربيُّ الضخم، أو التواطؤُ العربيُّ الرسمي، في أجزاءٍ مهمَّة منه، إلى رفْع فاتورة المواجهة غيرِ المتكافئة مع الاحتلال

قد يقول قائل إنّ الربيع العربي ومآلاتِه كان ممَّا أغرى دولةَ الاحتلال بهذه الوحشية غير المسبوقة، ودَفَعَها إلى تحيُّن الفرصة السانحة نحو محاولة تهجير الفلسطينيين من وطنهم. وهذا القول شبيهٌ بقول مَن يحمّل حركةَ حماس المسؤوليةَ عمّا آلَ إليه قطاعُ غزّة من دمار، على يد الاحتلال وجيشه، فكما أن تواطؤ دولٍ كبرى، وفعاليات محلية عربية، مستفيدة، ضدَّ الربيع العربي، بالإضافة إلى عوامل أخرى، أوصل إلى إجهاض الربيع العربي، مصحوبًا بأثمانٍ باهظة، في الأرواح وكرامات الناس ومقدّراتهم، فكذلك، مع الفارق، يؤدِّي الدعمُ الدوليُّ الغربيُّ الضخم، وشبهُ المطلق، والتخاذلُ، أو التواطؤُ العربيُّ الرسمي، في أجزاءٍ مهمَّة منه، إلى رفْع فاتورة المواجهة غيرِ المتكافئة مع الاحتلال. وهنا بعملية تضليلٍ فكريٍّ ونفسيٍّ يُحاوَل صرفُ الغضب من مرتكب الجريمة إلى الضحية، أو إلى مَنْ حاول الوقوفَ أمام مرتكبيها، والتصدّي لهم.
ومثلما طفح الكيلُ أمام الشعوب العربية؛ فثارت في بعض البلدان، وطالبت بالعدالة والكرامة، كذلك وصلت القضية الفلسطينية، وأوضاع قطاع غزّة إلى منعطَفٍ بالغ الخطورة، كاد يدخل في منطقة اللاعودة، فقرَّرت حركة حماس القيام بتلك الخطوة المقاوِمة.

دولة الاحتلال لا تَرْعى أيّ شروطٍ معقولةٍ لما يسمَّى الصلح والسلام، وهي تستهدف ليس فلسطين وشعبها فقط، بل ما يُسمَّى الأمن القومي العربي

والحاصل أن "حماس" وحركات المقاومة في غزّة بذلوا جهدَهم، في امتلاك جاهزيَّة المقاومة، سواء من حيث الإعداد القتالي، بتوفير السلاح الممكن، وفي حفْر شبكة الأنفاق، وفي إِحكام الخطة لإنجاح عملية طوفان الأقصى؛ تخطيطًا، واستخباراتيًّا، هذا فضلًا عن البناء الإيماني الذي ثبت أنه تعدّى المقاتلين إلى البيئة الشعبية الحاضنة. ولكن حركة حماس لا تقع في جزيرة معزولة، ولا أهل غزّة مقطوعون من شجرة، سواء من حيث توقُّع المساعدة، والتضامُن الفاعل، أو لجهة المخاوف من طعنات في الخفاء، أو تخاذُل حاسم التأثير، وقت مَسيس الاحتياج. 
وكان، ولا يزال، بمقدور السلطات الحاكمة، وخصوصًا في البلاد العربية المجاورة لفلسطين، أو الكبيرة، أنْ تفعل المزيد ممَّا تدّخره، سواء بالتهديد الفعلي، بقطع الدول المتصالحة علاقاتِها مع دولة الاحتلال، أو تجميد الاتفاقات والشراكات الاقتصادية معها، أو التلويح بغضب شعوبها و(تفلُّتها)، أو بالتفكير في "معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي"؛ ذلك أن دولة الاحتلال لا تَرْعى أيّ شروطٍ معقولةٍ لما يسمَّى الصلح والسلام، وهي تستهدف ليس فلسطين وشعبها فقط، بل تستهدف تاليًا، وأصالةً، ما يُسمَّى الأمن القومي العربي، أو الأمن القومي للبلدان المجاورة والمعاهدة لإسرائيل، فهي تهدِّد أمن مصر، بالتلويح بتهجير الغزّيين، إلى شبه جزيرة سيناء، وتهدِّد أمن الأردن بمخاطر متوقّعة، ومُوشِكة، في الضفة الغربية. 
أمَا، وقد فشل الربيع العربي، أو أُفشِل، فإنّ الطاقم الحاكم لا يزال مرتهِناً للرضا الأميركي، أو على اعتياده في استرضائه، حتى وهذا الطاقم نفسه يتعرَّض لمخاطر حقيقية؛ نتيجة رعونة الحكومة الاحتلالية الحالية، أو استهتارها بشركائها العرب.

الكاتب أسامة عثمان
الكاتب أسامة عثمان
أسامة عثمان
كاتب فلسطيني
أسامة عثمان