غزّة... التنافر بين الحقّ وتمثيله

02 يوليو 2024
+ الخط -

شهد العالم الغربي حركة تضامن واسعة مع الفلسطينيين، في الوسط الجامعي بصورة خاصة، في غضون الحرب المسعورة التي يشنها الجيش الإسرائيلي على غزة منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. ولم يكن مفاجئاً أن تحضر في أنشطة التضامن هذه رموزٌ لحركات إسلامية ذات صلة بهذا الصراع، مثل حركة حماس وحزب الله، رغم التنافر بين منطلقات الاحتجاجات التضامنية تلك ومنطلقات الحركات الإسلامية في العموم. لا غرابة في ذلك، لأن التضامن مع الفلسطينيين الذين يتعرّضون للإبادة في غزّة سوف يبدو تضامناً مع "حماس"، ليس فقط بوصفها "الحكومة" أو السلطة الفعلية في القطاع منذ 2007، بل وبوصفها القوة التي تعلن وتتولى مهمة المقاومة و"تحرير فلسطين". من الصعب فكّ هذا الارتباط بين التضامن مع غزّة والتضامن مع "حماس"، ولا سيما أن إسرائيل في ردّها الانتقامي، وحتى في تصريحات مسؤوليها، تماهي بين حركة حماس وأهالي غزّة، المماهاة التي يُراد منها إطلاق يد إسرائيل في تنفيذ مهمّة غير مقبولة دولياً (القضاء على الوجود الفلسطيني في غزّة) في تضاعيف مهمة مقبولة بل مدعومة دولياً (القضاء على "حماس").
هذا المشهد الذي يعرضه علينا الواقع الفلسطيني اليوم سبق أن عرضه الواقع السوري حين تولت قوى إسلامية تمثيل ثورة الشعب السوري، مستفيدة من المزيج الخصب بين فاعلية العصبية الدينية والدعم المالي والسياسي الخارجي. في الحالتين، كان "البطل" دخيلاً على الرواية ومُفسداً لفصولها. وفي الحالتين، كان التنافر بين الحقّ وتمثيله باباً للحيرة وعقبة في سبيل المناصرة، أكانت داخلية أم خارجية.

حاول الإعلام الغربي أن يجعل من مرفوضية "حماس" مدفناً للحقّ الفلسطيني، حقاً وطنياً وسياسياً لشعب، ولحقوق الإنسان الفلسطيني، وفي مقدمتها حق الحياة

التنافر بين الحقّ وتمثيله جعل للغرب المنحاز إلى إسرائيل مخرجاً، فقد أنتج هذا التنافر إشكالية تقوم عُقدتها على تراكب زوجين من العناصر: الأول هجوم السابع من أكتوبر الدموي والرد الإسرائيلي المسعور، والثاني طبيعة الحق الفلسطيني الذي لا يُمكن إنكاره، وطبيعة الطرف الفلسطيني الذي يتولّاه والذي لا يمكن قبوله.
هكذا تحرّكت سياسة الانحياز الغربي لصالح إسرائيل (محاججات الإعلام والسياسيين والمحللين) على مسارين: الأول تبرير العدوانية الإسرائيلية غير المسبوقة بالإحالة الدائمة إلى دموية هجوم 7 أكتوبر، حتى وصل الأمر إلى حد اعتبار عملية طوفان الأقصى حدثاً مؤسّساً. والثاني تحييد الحقّ الفلسطيني بالإحالة الدائمة إلى الطبيعة "الإرهابية" لحركة حماس. الحد الأقصى من الموضوعية لدى داعمي سياسة الحرب الإسرائيلية لم يكن يتجاوز الصيغة التالية "لا اعتراض على الحقّ الفلسطيني في الأرض والدولة، ولكن من حقّ إسرائيل الدفاع عن نفسها ضد (إرهاب حماس)". من الطبيعي أن الاستدراك المقابل مرفوض، أي ليس من المقبول القول إن عملية طوفان الأقصى مُدانة، ولكنها نتاج سياق استعماري وتمييزي عنيف. الاستدراك هنا يقع تحت طائلة الاتهام بدعم "حماس" ومعاداة السامية.
بات كل اقترابٍ من الحقّ الفلسطيني محفوفاً بخطر الاقتراب من "حماس". حاول الإعلام الغربي الصريح الانحياز لإسرائيل، حاول أن يجعل من مرفوضية "حماس" مدفناً ليس فقط للحقّ الفلسطيني بوصفه حقاً وطنياً وسياسياً لشعب، بل حتى لحقوق الإنسان الفلسطيني، وفي مقدّمتها الحقّ في الحياة. ظهر ذلك على صورة سؤال متكرّر لكل من ساءل الموقف الغربي المنحاز وحاول تناوله بالنقد، "هل تدين حماس"؟ من الواضح أن الغاية من الإصرار على هذا السؤال كانت تحييد الحق الفلسطيني عبر "إدانة" من يزعم تمثيل هذا الحقّ، ويقوم بعمليات "إرهابية" باسم هذا الحقّ. هكذا يعرض الواقع الفلسطيني علينا هذه المفارقة المتمثّلة في أن الذات السياسية التي تتولى العمل من أجل حقٍّ ما قد تكون أحد أسباب ضياع هذا الحق. يكون ذلك حين تكون هذه الجهة ذات منظور سيطري (من السيطرة) لا يشكّل الحقّ المعني سوى حلقة فيه أو رافعة في استراتيجيته الشمولية. لا تنبثق مثل هذه الذات السياسية من صلب الحق الذي تمثله بل من خارجه إلى حد كبير. والحقّ إن هذا ينطبق بصورة عامة على جميع القوى الإسلامية التي تتولى مهامّ "وطنية"، ويكاد يكون المآل الذي تنتهي إليه هذه القوى، رغم كل ما تقدّمه من تضحيات وإنجازات، واحداً في الدمار والإفقار الاقتصادي والسياسي.

التنافر بين الحقّ الفلسطيني وتمثيله يقود إلى هدر طاقة التضامن العالمي، بفعل غياب الجهة القادرة على استثمار هذه الطاقة سياسياً

هكذا ترتسم في الوعي الراهن لوحة لصراع بين حقّين، حقّ فلسطين في أرض ودولة، وهو ما لم يستطع الغرب إنكاره. وحقّ إسرائيل في الوجود والدفاع عن النفس، وهو ما يتغذّى في الوعي الغربي على صورة أن إسرائيل الحضارية مُحاطة بأعداء حقودين ومستبدّين وهمجيين، ولا يريدون سوى تدميرها وإبادة شعبها. غير أن الحق الفلسطيني تتولاه قوة لا تمثله في حقيقة الأمر (حماس)، وتستعدي العالم انطلاقاً من تصوّر غير عقلاني تعتقده تكليفاً إلهيا يخوّلها أن تفعل ما تشاء، ولو كان فيه هلاك واسع. والثاني تتولّاه دولة تلتزم معايير ديمقراطية وتحوز رضا غالبية الدول. يضاف إلى هذا فارق مهم أن علاقة حركة حماس مع محكوميها هي علاقة من السيطرة وسلب الإرادة السياسية، أي علاقة غير تمثيلية، قياساً على علاقة الحكومة الإسرائيلية مع محكوميها.
بالرغم من الاقتران الحاصل اليوم بين حركة حماس ومقاومة اسرائيل، يبقى من السهل ملاحظة أنه لا شيء يربط "حماس"، في منطلقها وفي سلوكها وسياساتها، مع التطلّع التحرّري الذي يثير هذا التضامن العالمي مع فلسطين، فهي حركة إسلامية تقوم على مبدأ "السيطرة الهوياتية"، المبدأ المضادّ في العمق للتحرّر، حين نفهم هذا أنه نفي لعلاقة السيطرة والخضوع بين الأطراف والجماعات، ونفي لمبدأ التراتبية في الهويات، دينيةً كانت أو قومية أو سواها. ليس تحرّرياً الفكر السياسي الذي يهدف إلى السيطرة على الغير، حتى حين يكون هذا الغير مسيطراً. النضال من أجل التحرّر من السيطرة، وليس العمل على فرض سيطرة معاكسة، هو شرط المسعى التحرّري.
في النهاية، يبدو لنا أن التنافر بين الحقّ الفلسطيني وتمثيله يقود إلى هدر طاقة التضامن العالمي، بفعل غياب الجهة القادرة على استثمار هذه الطاقة سياسياً، تماماً كما تذهب طاقة الريح حين لا تتوفّر وسائل لتسخيرها واستثمارها.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.