غزّة: التطبيع العربي والتضامن العالمي
تساؤلٌ مهم، يطرح نفسه في سياق الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزّة اليوم، يتمحور حول ما إذا كان التطبيع العربي من العوامل التي تمكّن الكيان الإسرائيلي من الاستمرار في انتهاك القوانين الدولية، والإفلات من المحاسبة والعقاب على جرائمها. وفي أن التطبيع لم يسهم في لجم، أو في وقف، جرائم الحرب ضد الفلسطينيين، أو في التخفيف من معاناة المدنيين في غزّة أو في الضفة الغربية، وتمكينهم من إدارة شؤونهم بالحدّ الأدنى من الاستقلالية.
الإجابة أن التطبيع الرسمي العربي يأتي بمثابة مكافأة لإسرائيل على جميع سياساتها، ويمنحها جانباً من القدرة على القيام بما تريد، والتنصّل من أيّ تبعاتٍ قانونية. ويمكن القول إن العدوان على غزّة هو حصاد مهم لعملية التطبيع، وليس ممكناً لإسرائيل أن تواصل حربها الانتقامية، من دون تفهّم واضح، يصل إلى درجة التأييد، والمشاركة من الحكومات المطبّعة معها، بصورة أو بأخرى.
شهدت السنوات الثلاث الأخيرة تطوراً لافتاً في عملية التطبيع، بشكلٍ لم يحدُث أن وصلت فيه العلاقات مع "إسرائيل" إلى هذه الدرجة من الوضوح والانفتاح، منذ اتفاقيات كامب ديفيد إلى وادي عربة، ومسار أوسلو لاحقاً، والتي كان من المفترض أن تؤدّي فعلياً إلى قبول تدريجي لإسرائيل في المنطقة. لكن الأخيرة، سرعان ما تمكّنت من القفز إلى أحضان الأنظمة العربية، التي بادر بعضها بالاتصال بإسرائيل، والبدء بمساراتٍ مختلفة من العلاقات الثنائية، على الرغم من تنامي (وصعود) التيار اليميني الأشد إعراضاً عن حقوق الفلسطينيين، وانتهاكاً لها.
تبدو مجموعة التطبيع العربي التي تسمّي نفسها "دول اعتدال" منسجمة تماماً مع السياسات الإسرائيلية، وفي الحدّ الأدنى، أنها تتفهّم ظروفها ومعطياتها
وخلال أربعة أشهر فقط، تجرّأت أربع دول عربية على إقامة علاقات مع تل أبيب: الإمارات/ أغسطس، البحرين/ سبتمبر، السودان/ أكتوبر، المغرب/ ديسمبر 2020. فيما تعثرت مفاوضات التطبيع، في اللحظة الأخيرة بين الرياض وتل أبيب، قبيل الإعلان عنها، وجميعها يندرج تحت يافطة دفع عملية السلام، وتمكين الفلسطينيين من حقوقهم!
وفي الواقع، تبدو مجموعة التطبيع العربي التي تسمّي نفسها "دول اعتدال" منسجمة تماماً مع السياسات الإسرائيلية، وفي الحدّ الأدنى، أنها تتفهّم ظروفها ومعطياتها، وتتبادل معها المواقف التكاملية، سوى التنسيق الأمني والسياسي الذي لا يظهر مباشرة على السطح، لكنه موجود وقائم بمستوياتٍ عالية في العمق. وتتبدّى مظاهرها في طبيعة الممارسات والسلوكيات (السياسات والمواقف) التي اتّخذتها تلك الحكومات حيال العدوان على غزّة. أستطيع التدليل على ذلك بالمشاركة في حصار غزّة، عبر معبر رفح، وفي العزل السياسي لحركة حماس، وفي الاتصالات التي جرت مع قادة إسرائيل، وإدانتها عملية طوفان الأقصى، وكذلك في اتفاقيات الجسر البرّي الذي يصل بين دبي وحيفا.
يتمثل الوجه المشرق في التضامن العالمي الذي اتّسم بإحياء الدفاع عن القضية الفلسطينية، وتوسّع قاعدته الشعبية، خصوصا لدى الجيل الأخير، من الشباب العالمي
وفي الوقت الذي لم تعمل فيه على تفنيد الرواية الصهيونية، بما يكفي، فإنها تجنّبت ممارسة أي ضغط، من شأنه أن يدفع نحو وقف العدوان، ووقف إطلاق النار، بأي صورةٍ كانت. وباستثناء الأردن، (دانت البحرين والإمارات حركة حماس) لم تستدع حكوماتٌ عربيةٌ أخرى سفيرها في دولة الاحتلال، وهذا إجراءٌ دبلوماسي تتمثّل قيمتُه في الرسالة التي يمكن أن تصل إلى المجتمع الدولي، وبالتالي، يحثّ حكومات الدول المساندة لإسرائيل، على كبح تأييدها الإبادة الجماعية في غزّة، وجرائمها في الضفة الغربية.
كما أنها تحول/ تمنع أي حراك شعبي جماهيري، مساند للقضية الفلسطينية، في بلدانها. ولذلك، على الرغم من المقاطعة الشعبية الواسعة للتطبيع، وفشل مساراته، لم تخرُج مظاهراتٌ شعبيةٌ عربية مندّدة بالعدوان، لا في دول التطبيع، ولا في دول الممانعة، باستثناء الأردن، وذلك تبعاً لمعطياتٍ أخرى، تتصل بالعلاقة الأردنية - الفلسطينية، وحالة الأردن، والظروف الداخلية المتعلقة بها. يُضاف إلى ذلك موقفا الشارعين، العراقي والمغربي. وقد ظلت مظاهر التنديد بالعدوان دون الحد الأدنى من المستوى الواجب، وكانت خجولةً جداً بالقياس إلى حركة الاحتجاج العالمي.
يتمثل الوجه المشرق في التضامن العالمي الذي اتّسم بإحياء الدفاع عن القضية الفلسطينية، وتوسّع قاعدته الشعبية، خصوصا لدى الجيل الأخير، من الشباب العالمي، الذي يرفض الرواية الإسرائيلية، يعترض على سياسات حكوماته، ويؤكد على جذور المسألة الفلسطينية الناجمة عن الاحتلال الإسرائيلي، ويؤيد قيام الدولة الفلسطينية. وعلينا الإشارة إلى الحركة الطلابية الشجاعة في الولايات المتحدة، بصورة خاصة، وفي كندا وجامعات أخرى في العالم، وما يمكن أن تنتج عنها من تطوّرات سياسية وفكرية تؤثر على التبنّي الأعمى للرواية الصهيونية، على الرغم من حملات وإجراءات تعسّفية تطاول النشطاء المطالبين بوقف الحرب، والضغوط الهائلة التي تطاول المؤسّسات الأكاديمية والجامعات، بما يتعارض والحقّ في حرية التعبير.
أصبحت العلاقات مع كيان الاحتلال عارية تماماً سوى من العار الذي يجللها بجلاء ومن دون حياء
مظاهر التضامن العالمي التي لم يَرْقَ إلى مستوياتها أيُ حراكٍ عربي نتلمس بعضاً منها في أورقة الأمم المتحدة: محكمة العدل الدولية تتلقى طلباً بإحالة الوضع في فلسطين إليها من جنوب أفريقيا وبنغلادش وبوليفيا، وأخيراً من مجموعة نواب أوروبيين. وليس من دولة عربية بينهم! فيما قطعت دول أخرى علاقاتها مع إسرائيل وطردت سفراءها، فيما دانت برلمانات وحكومات أخرى جرائم إسرائيل بوضوح، وتنوي الاعتراف بالدولة الفلسطينية، على الرغم من ضياع بوصلة السلطة الفلسطينية ذاتها.
وثمة تحدٍّ واسع لمحاولة عديد المؤسّسات الإعلامية والجامعية والحكومات الغربية، اتهام نشطاء الحرية بمعاداة السامية، وتتّجه المواجهة نحو الحراك القانوني، الذي يأخذ مساراً مهمّاً في مقاضاة سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وقادة المجتمع الدولي الذين يدعمون الحرب ضد غزة، أمام المحاكم الوطنية والدولية، ولعل هذا يعيد تأسيس الحركة الشعبية المناصرة للقضية الفلسطينية، في جوهرها، ويدفع بها إلى واجهة النضال العالمي.
أيّاً تكن ادعاءات الحكومات التي تنتهج التطبيع، فإن ذلك لم يخدم القضية الفلسطينية على الإطلاق، ولم يؤدّ إلى التزام إسرائيلي بعملية السلام، بل على العكس، تطوّرت وتعددت جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين، وأصبحت العلاقات مع كيان الاحتلال عارية تماماً سوى من العار الذي يجللها بجلاء ومن دون حياء.