غرام وانتقام بين حزب السلاح وقناة تلفزيونية
الحكاية عادية. قناة تلفزيونية، اسمها "الجديد"، وضعت منذ سنوات أمين عام حزب الله حسن نصر الله في مصاف القديسين، ومديرة أخبارها رفعت "صبّاطه" (حذاءه) إلى محطّ إجلال في مقابلة معه إثر حرب 2006. كان غراماً يليق باللحظة، حيث بلغت شعبية الحزب أعلاها. ولكن بعد هذه السنوات، بدأت القناة تتحوّل: حرب اليمن، أولاً، وقد انتقدت تدخل حزب الله فيها. تلتْها ثورة 17 تشرين التي وضع الحزب كل ثقله لسحقها، وكانت القناة من أشدّ المؤيدين لها. ثم حملة القناة ضد الفساد التي طاولت فيها ملفات، للحزب يد طولى في كبائرها، فانتقام من الحزب، بقطع بثّ القناة عن المناطق التي يسيطر عليها. واعتداءات بقنابل المولوتوف على أبواب عمارتها. يواجهه برنامج، اسمُه "فشّة خلق"، يقدّم نفسه على أنه "ساخر وشعبي"، لا يخفي هذا العداء، ومحطّات منه: مثل التي باتت معروفة بـ"التماسيح"، منذ سنة بالضبط: وصفت مقدّمته كل السياسيين اللبنانيين بالـ"تماسيح"، أرفقته بصورة تجمعهم كلهم، ومن بينهم حسن نصر الله. فردود فعل وردود مضادّة انتهت برفع درجة المشاهدة لهذه القناة.
بعد مقتل الجندي الأيرلندي في العاقبية في الجنوب اللبناني، واتهام حزب الله بتحريض "الأهالي" الذين اعتدوا على موكب للقوات الدولية وتسليحهم، والتحقيق الدولي به، وتصريحات للأمم المتحدة مستنكرة إلخ ... رأت القناة أن تقدّم اسكْتشا، يُفترض أنه كوميدي، تقول فيه رأياً بمقتل الجندي الأيرلندي، تقدمه ممثّلة "موهوبة"، تلبس هندام النساء الجنوبيات، وتقول كلاماً بلهجتهن، قابلاً للتأويل والاجتزاء: من "أنهم"، أي القوات الدولية، جاؤوا إلى الجنوب اللبناني، ومن "أننا زوّجناهم من بناتنا" و"أخذنا من بناتهم". ومن أن ثلاثة أرباع أهالي الجنوب "عيونهم خضر وزرق وشعرهم أشقر". وتختم "الطليان فاتوا (دخلوا) علينا والإنكليز فاتوا (دخلوا) فينا".
أراد حزب الله أن ينظر إلى الإسكتش بصفته ينال من شرف الجنوبيات. أخذ الجملة الأخيرة، "فاتوا..."، وأطلق حملةً منظَّمة على البرنامج. كانت مواقع التواصل السباقة، قادها جواد نصر الله، ابن الزعيم، وقد تمرّس على "القيادة" الإلكترونية منذ سنوات. هدّد مديرة الأخبار في القناة نفسها التي تغزّلت بـ"صبّاط" أبيه بأنه طالما القصة مزحةٌ بمزحة، كما تقول مديرة الأخبار عن الإسكتش، فإن المشكلة "أن مزحنا ثقيل". والموضوع تخطّى خفّة المواقع وفتوّة نجومها. نواب في البرلمان، حاليون وسابقون، المجلس الشيعي الأعلى، الشيخ سامي خضرا، الشهير بدعوة النساء إلى وضع شجرة مكان صورتهن، موقع العهد الإخباري، التابع لحزب الله .. كلهم غاضبون يستنكرون: الإسكتش باطل وظالم، وهو افتراء على أمهاتنا وأخواتنا، وعلى عِرضنا، كرامتنا الأخلاقية والإنسانية، إنه إهانة واستهانة، سوقية وسفاهة، وثقافة هابطة وبذيئة، وإساءة لكرامات الناس وأعراضهم، تضليل سمعة الطائفة الشيعية وتشويهها، إنه خدمة للمشروع الصهيوني، وافتعال الفتنة، وعلى الجهات "المختصّة" اتخاذ الإجراءات "القانونية اللازمة"، وفرض احترام الالتزامات "الأخلاقية والوطنية" .. إلخ.
كسبَ الحزب وضعية المدافع عن "عِرض" الجنوبيات، وربما أيضاً، رفع دخاناً كثيفاً بوجه انتفاضة النساء الإيرانيات
وكانت الردود "الأهلية" ضد مبنى القناة على امتداد أربع ليالي: قنابل مولوتوف ورصاصا، وشبابا على الموتوسيكلات، يهتفون بموتها .. في مشهدٍ مكرَّر، صار عمره الآن عشر سنوات. أقدَمه هجوم مماثل على قناة إل. بي. سي، بعدما انتقد الشعار الذي رفعه الحزب بتدخّله العسكري في سورية، من أنه "ضروري وشرعيّ ومؤقّت". ومثله الهجمات الأعنف ضد متظاهري 17 تشرين، حرقاً وتكسيراً وضرباً وشدّ النساء من شعورهن (العِرض ... هل تأكّدوا من طائفة المرأة التي هجموا عليها؟)...
وكان الردّ على الردّ: جميع الذين دافعوا عن البرنامج قالوا بأن الكلام اجتُزئ. ولم ينقل غير الشق الاستفزازي، أي "فاتوا علينا" و"فاتوا فينا". ولكن بالعودة إلى مشاهدة الشريط، حتى لو قالت ممثلته إن الجنوبيات فظيعات بمحاسنهن، فإن لهجتها، وقعدتها، وحركة يديها، وحتى كلماتها وسياق هذه الكلمات .. كلها مدعاة للالتباس. تبدو فيها المرأة الجنوبية خليطا من السذاجة والخبث.
ربحت قناة الجديد المزيد من المشاهدة، كونها موضع العدوان، وبدت فوق ذلك، وكأنها متحرّرة من عقد القداسة وتابوهاتها
اعتذرت كلٌ من الممثلة "الكوميدية"، ومقدّمة البرنامج، على طريقتهما. الأولى قالت إنها "جنوبية وشيعية"، وطالبت بأن لا "يزايد" أحدٌ عليها "بحبّه للطائفة". والثانية كانت أقل طائفية، أكثر حنْكة: "إذا أردتم أن تُنسوا الناس حادثة اليونيفيل، فالجديد ليست العاقبية"، المكان الذي قتل فيه "الأهالي" الجندي الأيرلندي. ومع تكرار الهجمات على القناة بالمولوتوف والرصاص، ارتفعت لهجة القناة برفض الاعتذار، بالاستنكار، وبالمطالبة بـ"رفع الغطاء" عن المعتدين عليها.
وبلغ "الإشكال" هذا الحدّ. ربحت قناة الجديد المزيد من المشاهدة، كونها موضع العدوان. وبدت فوق ذلك، وكأنها متحرّرة من عقد القداسة وتابوهاتها. فيما الحزب ربح على كذا صعيد: حجبَ التحقيق في مقتل الجندي الأيرلندي، كسبَ وضعية المدافع عن "عِرض" الجنوبيات، وربما أيضاً، رفع دخاناً كثيفاً بوجه انتفاضة النساء الإيرانيات التي قد تكون أيقظت، أو في طريقها إلى إيقاظ، النساء الشيعيات الواقعات تحت سلطته، على بؤس أوضاعهن الشخصية الخاصة. ففي تصدره للدفاع عن "عِرض" الجنوبيات و"شرفهن"، طمر الحزب مسؤوليته المباشرة في إرهاق النساء الشيعيات بمحكمة أحوال شخصية هي الأكثر هدرا لشرف النساء، الأكثر بيانا، أي الأمومة. هو صاحب السلطة الأعلى في الشيوخ والفقهاء، أمراء المحكمة الجعفرية، الذين يبتّون بحضانة الأمهات لأبنائهن. كل الطوائف اللبنانية حسّنت من قوانين هذه الحضانة، إلا الطائفة الشيعية، التي تركت الأمهات لقمة سائغة لشهوات أصحاب العزوة من الأزواج، بحرمانهن من ممارسة أبسط وظائفهن مع أبنائهن. ولا تذهب بعيداً: العطب طاولَ نواف الموسوي، نائبا من حزب الله، قبل ثلاث سنوات، الذي خالف الإجحاف بحق ابنته الأم لولدَين. فأقاله الحزب، وأنهى حياته السياسية، باستقالة مموَّهة.
كان يمكن لمعركة نواف الموسوي أن تستمر، أن لا تبتر من أساسها، لولا نظرة الحزب إلى العرض، ودفاعه عنه، على أنه يتعلق بارتباط الجنوبيات بجنود دوليين... واخضرار العيون أو زرقتها... التي لا تقتصر على الجنوبيات، إنما يطاول نساء أخريات من لبنان، كان لهن نصيب أيضا من جنود تيمورلنك، والرومان، والصليبيين، والفرنسيين ... وإذا كان الأمر معيباً، فليشمل باقي اللبنانيات.