عَقيدتا نتنياهو وعُقدتاه
قبل أن يُمسي مصير نتنياهو الشخصيّ على المحك، وقَدَراً محتوماً يحاول الهرب منه أو في الأقلّ تأجيله، فإنّه بالتوازي صاحب عقيدة ثابتة غير متحوّلة، منذ عقود طويلة، تملي عليه مواقفه وتصرّفاته وقراراته، سواء السياسية (التي يتقنها) أو العسكرية التي لا يُدرَك كثيرها لأنّه، على عكس معظم أسلافه، غير وافد من الجيش، بل من الدبلوماسية. وإذ "يُدوِّخُ" العالم اليوم بتكتيكاته التفاوضيّة المراوغة والمتناقضة والمتبدّلة والمنافقة، يوماً فآخر، بين قبول ورفض للمبادرات، من أيّ جهة أتت، ولصفقات تبادل الأسرى، واتفاقيات الهدنة ووقف إطلاق النار، فإنّه ينسجم بذلك مع فكره ونهجه القديمين اللذين نشأ عليهما جابوتنسكيّاً بتأثير من والده بنتسيون، أحد عتاة الصهاينة زمن المؤسّسين والتابع لنهج زئيف جابوتنسكي، المتطرّف بتأثّر من والده (جدّ بنيامين نتنياهو) نتان ميلوكوفسكي، الذي ربطته علاقة صداقة شخصية وأيديولوجية بجابوتنسكي، وكان حاخاماً منذ سنّ الثامنة عشرة، وأحد القادة المهمّين في الحركة الصهيونية.
كان بنتسيون نتنياهو، بحسب دراسة الباحث مهنّد مصطفى، إحدى أكثر الشخصيات أهمّية، التي تأثّر بها نتنياهو (الابن)، إذ كان الأب واسع الاطلاع على تاريخ الشعب اليهودي في القرون الوسطى، وعلى فكر الحركة التصحيحية – التنقيحية، وأكثر العارفين بفكر جابوتنسكي، ويعتنق الأيديولوجية التي تدعو إلى إقامة "إسرائيل الكبرى" التي تتجاوز أراضي الضفّة الغربية إلى الأردن، ولا يعترف بوجود شعب فلسطيني، ومن القائلين (كما يردّد ابنه اليوم) "إنّ حلّ الدولتَين لا وجود له، فليس هناك شعبان، بل شعب واحد وسكّان عرب، وليس هناك من شعب فلسطيني...". ويومَ سُئل نتنياهو (الأب) عن الحلّ أجاب مثلما يجيب الابن الأمين على "الوصيّة": "ليس هناك من حلٍّ سوى القوّة والحكم العسكري القوي. أيُّ انفجار سيجلب معاناة هائلة على العرب. لا ينبغي لنا أن ننتظر نشوب تمرّد كبير كي نباشر العمل، بل علينا أن نتصرّف على الفور وبقوة كبيرة كي نمنعهم من الاستمرار (...) يجب أن نعتمد مع العرب لغة يفهمونها ويُعجبون بها؛ لغة القوّة" (من قال له ذلك؟!).
بحسب عقيدة نتنياهو لا يمكن حلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال اتفاق سلام، بل بإدارة الصراع وتحويله واقعاً غير قابل للحلّ
بثّ بنتسيون نتنياهو في عقل ابنه الفكرة المسيانية (الخلاصية)، التي تنذر بالكارثة (الأبوكاليبوس)، ومقولة أنّ التاريخ يسير في مسارين: الأول التاريخ العام، والثاني تاريخ اليهود. لذا نرى نتنياهو (الابن) دائم الاستحضار للتاريخ في الحاضر، وقارئاً للمستقبل من التاريخ. فضلاً عن مقولة رؤية المستقبل من أجل الحاضر أيضاً، وهذه المقولة هي الأكثر تأثيراً في نهجه العملي الذي يرمي إلى منع كارثة مستقبلية (كزوال "دولة إسرائيل" مثلاً) من خلال فهم ديناميكيتها التاريخية والاستعداد لها في الحاضر. المستقبل يُقلق نتنياهو أكثر من الحاضر، لذا يعمل من أجله أكثر من اللحظة الراهنة. هو لا يريد تكرار خطأ يتسحاق أباربانيل (1437 ــ 1508) الذي رأى في زمنه كارثة في الأفق تنتظر اليهود في إسبانيا، لكنّه لم يفعل شيئاً سوى الانتظار، معتمداً على إيمانه بقدوم المُخلِّص. لا يريد بنيامين نتنياهو انتظار عودة "المسيا"، فالصهيونية التي يدين بها نقيض يهودية أباربانيل الخلاصية، إذ يعمل ضمن التاريخ العام لا ضمن التاريخ اليهودي. يعمل نتنياهو على خلاص اليهود من كارثة مستقبلية عنوانها المتردّد لديه منذ عقود "المشروع النووي الإيراني في الوقت الراهن". لا يريد انتظار حصول الكارثة، بل منعها منذ الآن. هاجسٌ هَوَسيٌّ، عقدةً وعقيدةً.
يدرك بنيامين نتنياهو أنّه من خلال تصعيد خطر "الكارثة الكامنة" يستطيع الحفاظ على وعي سياسي يهودي جماعي، مثل صمغ يَشدُّ وحدة الكيان السياسي اليهودي. لذا فإنّ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي لا يمكن حلّه، بحسب عقيدة نتنياهو وفكرته الاستراتيجية البعيدة، من خلال اتفاق سلام، أو ضمّ المناطق، أو الانسحاب أحاديّ الجانب، أو طرد الفلسطينيين، بل بإدارة هذا الصراع وتصعيده وتحويله واقعاً غير قابل للحلّ. وبالتالي، الأفضل لحلّ التهديد الذي يُمثّله المشروع النووي الإيراني هو احتواء هذا التهديد من خلال نظام عقوبات أبديّ يُفرض على إيران. ومن أجل ذلك يُبقي نتنياهو المجتمع الإسرائيلي في حالة طوارئ. فلسفته السياسية كلّها هي فلسفة منع الكارثة الكامنة. أما "عقيدة اللاحلّ"، وهي عنوان كتاب للباحث أنطوان شلحت (المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، رام الله، 2014) ، فتكشفها قراءة شاملة لمسيرة نتنياهو وخياراته ومرجعياته الأيديولوجية، وفي ذلك إيثاره سياسة الصدام والتوسّع في صعيد العلاقة مع الفلسطينيين، وتعدّد الأدوات التي استخدمها ماضياً في ما بات يعرف باستراتيجية البقاء في السلطة، خصوصاً في ولايتيه الثانية والثالثة، بعد سقوطه المُدوّي في تسعينيّات القرن العشرين. فما يبديه نتنياهو من سياسة المراوحة التي تخفي دوماً شراء الوقت من الفلسطينيين والأميركيين ودول العالم (عملية شراء الوقت واضحة في تصرّفاته الراهنة أيضاً) يهدف إلى تلافي التوصّل إلى أيّ اتفاق مع الفلسطينيين، ففي الأثناء يتّسع الاستيطان، ويُستقدَم المزيد من اليهود لاستيطان الأراضي المُحتلّة الإضافية.
ما من هامش واقعيّ لعقيدة نتنياهو تسويفاً ومراوحةً عند نقطة اللاحلّ، وتخطيطاً عبثياً لمنع الكارثة عن مستقبل كيان تميل شمسه إلى الأفول
تقوم "عقيدة نتنياهو" في ما يتعلّق بالصراع على أنّ ثمّة حاجة، بحسب تعبيره، إلى تجديد النمط القديم الرامي إلى تحقيق السلام لجعله يأخذ الواقع الجديد (أي عدم الاستقرار الإقليمي) في الاعتبار، كذلك بالنسبة إلى الوظائف والمسؤوليات الجديدة التي يتحمّلها الجيران العرب الذين تتطلّب عقيدة نتنياهو أن يقبلوا بالتطبيع الشامل مع (إسرائيل) للبحث بعد ذلك في السلام مع الفلسطينيين، وهذا أسلوب مراوغة من الأخبث في السياسة، ويسير عكس المسار التاريخي الذي يقتضي إعطاء الفلسطينيين حقوقهم، ومن ثم السلام فالتطبيع.
هل يبدّل حدث غزّة العظيم والمفصلي شيئاً في عقيدة نتنياهو وحساباته، فيعيد النظر في نظرياته الاستراتيجية الموروثة؟... يبدو من واقع الأمر أنّه إذا لم يُقدِم طوعاً على مثل هذَين، التبديل وإعادة النظر، فإنّه سيفعل مُرغَماً. موازين القوى على الأرض تبدّلت ولم تبقِ "إسرائيل" تخيف كما في السابق. سقطت الهالة وسقط معها ترف نتنياهو النظري، الطاووسي والاستعلائي. لم تبقَ المدعوّة "إسرائيل" سيّدة اللعبة؛ هَوَتْ من برجِ الرعب والتهديد. الكيان المُستهاب غدا مستباحاً. جيشه ذليل في وحول غزّة يصطاده سلاح مقاومة من صنع محلّي. مجتمعه مُتصدّع يتخابط ويتخبّط. أمنه وأمانه مفقودان. ازدهاره صار من حكايات الماضي. أحلام التطبيع بلا سلام مع الفلسطينيين صارت أضغاثاً. بالتالي ما من هامش واقعيّ لعقيدة نتنياهو القديمة تسويفاً وشراءً للوقت الذي نفد، ومراوحةً عند نقطة اللاحلّ، وتخطيطاً عبثياً لمنع الكارثة عن مستقبل كيان تميل شمسه إلى الأفول والانطفاء.