عين حولاء في انتقاد قطر بشأن المونديال

20 أكتوبر 2022
+ الخط -

ليس فحسب دفاعاً عن قطر والعرب وحقّهم في تنظيم الفعاليات العالمية الكبرى واستضافتها والمشاركة فيها، مثل كأس العالم، بل أيضاً دفاعاً عن مبادئ المساواة والعدالة ذاتها. إنّ المفاضلة في الحقوق اعتماداً على معايير غير إنسانية وغير حقوقية مثل الأيديولوجيا، بما فيها الدين أو المواقف السياسية أو المنطقة الجغرافية الحضارية، عملية تخدش جوهر الحقوق ذاتها وتفرغها من مضمونها السامي بوصفها قيماً مشتركة بين جميع البشر بلا انتقاص من أحد، فاعتبارُ حقّ ما مقدّساً مع وجوب الدفاع عنه، يوجب، في الوقت نفسه، استحضاره في كل مناسبة ممكنة، وليس غضّ الطرف عن بعضها لحاجة في نفس يعقوب.

ما حصل ويحصل من انتقادات لقطر بشأن بعض الملفات بمناسبة فوزها بتنظيم كأس العالم وقرب افتتاحه، لم يكن أحداثاً عرضية. وحتى لو كان هناك وجاهة في بعض الانتقادات، وخصوصاً تلك المتعلّقة بحقوق العمال، التي بالمناسبة استفادت منها الحكومة القطرية وعالجت أسبابها، فإنّ ذلك لا يعني أنّ جميع الانتقادات مُحقّة. لا يمكن الجزم حقيقة بوجود قراراتٍ سياسيةٍ جماعية باتّباع سياسة منهجية في دول الغرب، وأوروبا بالأخص، لمحاربة قطر أو التضييق عليها بهذا الشأن، لكن من الواضح أنّ هناك أعمالاً منهجيّة تقوم بها جهاتٌ، بعضها رسمي، ويمثّل المواقف الحكومية، حتى وإن كانت محليةً وليست مركزية. مثل قرار بلديات فرنسية عديدة، من بينها العاصمة باريس، عدم تخصيص أماكن عامة للمشجعين من أجل مشاهدة فعاليات بطولة كأس العالم في قطر.

الحقيقة أنّ مقاربة الأمر توجب أخذ بعض القضايا غير السياسية بالاعتبار عند البحث عن أسباب هذه المسألة. فالفكرة العامّة السائدة في الغرب عن عوالمنا العربية والإسلامية بالعموم سلبية، عزّزتها وسائل الفنّ، مثل السينما، وهوليوود خصوصاً ووسائل الإعلام وحتى الآداب، مثل الروايات والقصص خلال عقودٍ طوال. يمكن اختصار هذه الفكرة بنموذج البلاد القاحلة، وفي الوقت نفسه، القابعة على بحور من النفط والمال، مع سيادة وتسلّط نمطٍ ذكوري متخلّف، يُرمز إليه بلباسٍ معيّن وأشكالٍ مماثلة لأجساد مكوّرة بشعة لا تتمتّع بأية رشاقة أو جمال، وتوحي على الدوام بالبلادة والغباء. من هنا يأتي القبول المجتمعي لأفكار متطرّفة يُطلقها أشخاصٌ عن حسن نيّة أحياناً وعن سوئها في أكثر الأحايين.

لم نسمع عن انتقادات واسعة النطاق لروسيا مثلاً عندما استضافت عام 2018 بطولة كأس العالم السابقة

لماذا لم نسمع عن انتقادات واسعة النطاق لروسيا مثلاً عندما استضافت عام 2018 بطولة كأس العالم السابقة؟ ألم تكن القوات الروسية قبل أربعة أعوامٍ من ذلك التاريخ قد احتلت شبه جزيرة القرم الأوكرانية ضاربة بالقوانين والأعراف الدولية عرض الحائط؟ ألم يسمع المحتجون على قطر آنذاك أنّ الكنيسة الأرثوذكسية والحكومة الروسية تحارب المثلية الجنسية وتعتبرها شذوذاً وجرائم تستحق العقاب؟ ألم يلتفت هؤلاء إلى انتقادات منظماتٍ دوليةٍ مشهورة مثل هيومن رايتس ووتش وأمنستي لسجلّ انتهاكات حقوق الإنسان الخطيرة في روسيا؟ ألم يشاهدوا على شاشات التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي ما قامت به طائرات الجيش الروسي منذ عام 2015 في حلب والغوطة ودرعا وغيرها من المدن السورية؟ الحقيّة أنّ "عين الرضا عن كلّ عيبٌ كليلةٌ"، "ولكنّ عينَ السُخط تبدي المساويا"! فلماذا هم ساخطون على قطر وعلى العرب؟

في مبادرةٍ، يراها أصحابُها مُحقّة، ويراها عربٌ ومسلمون كثيرون تمييزيّة واستفزازية، أطلق المنتخب الهولندي مبادرة حسب زعمه لدعم حقوق المثليين، تتمثل بحمل قائده شارة عليها قلبٌ بألوان الطيف، وقد دعمت هذه المبادرة وانضمّت إليها كلٌّ من منتخبات إنكلترا وبلجيكا والدنمارك وفرنسا وألمانيا والنرويج والسويد وسويسرا وويلز. هل كان هؤلاء سيجرؤون على إتيان مثل هذا التصرّف في روسيا؟ أم استسهل هؤلاء استفزاز قطر ومناكدتها لأنها لا تمتلك ستة آلاف رأس نووي! متى سيفهم الأوربيون والغربيون عموماً أنّ تقدّمهم العلمي والصناعي والثقافي لا يعطيهم الحقّ بفرض مفاهيمهم بمطلقها على شعوب العالم، التي بعضها سبقت حضارته أوروبا بمئات السنين؟ متى سيدركُ هؤلاء أنّهم لا يختصرون العالم، وأنّ بعض المفاهيم التي يرونها طبيعية وجديرة بالحماية والاحترام، رغم أنّهم أنفسهم قبل بضعة عقود فقط كانوا يجرّمونها، ليست متجذّرة في ضمير البشرية، وأنّها يمكن ألا تتجذّر من أساسه؟

يبقى أن يتعامل المنتقدون بعدل مع من ينتقدونهم، لا أن يكيلوا بمكيالين أو أكثر حسبما يطيب هواهم ويميل خاطرهم

كما يحقّ للمثليين، وفق وجهة نظرهم ونظر المدافعين عنهم، أن يحضروا الفعاليات العالمية هذه بكل حريّة، باعتبار أنّهم بشرٌ مثل غيرهم ولهم الحقوق نفسها، يحقّ أيضاً للدولة القطرية أن تتّخذ من الإجراءات ما يكفل حفظ الأمن لهؤلاء ولغيرهم. نحن نشهد في مباريات الدوري الإنكليزي، على سبيل المثال، أعمالَ عُنفٍ وشغب لا توصف بشدّتها وفظاعتها لمجرّد فوز فريق وخسارة آخر، أليس من المنطقي والمقبول، بل والواجب أيضاً نزع أسباب الاستفزاز عند جمهورٍ عريض قد لا يقبل ما يريده جمهور مجتمع الميم؟ أليس صحيحاً "أنّ التوازن مطلوبٌ بين احترام حقوق الإنسان لجميع المشاركين في مونديال قطر 2022، وبخاصة الجماهير المشجعة للفرق الرياضية، وتأدية مؤسسات إنفاذ القانون مسؤولياتها في حماية الأمن والسلام الاجتماعي؟"، كما قالت رئيسة اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في قطر، مريم العطية!

بعض الصواب في انتقادات المنتقدين لا يُعطي رجاحة لكل المواقف. مع ذلك، تعطي مثل هذه الانتقادات أُكُلها عندما تكون مُحقّة ومنطقية، وعندما تجد لها جذراً في ثقافة المجتمع المضيف لهذه الفعالية. فعلى سبيل التجاوب مع النقدّ البناء، أشار مدير الالتزام والتدقيق في إدارة رعاية العمال باللجنة العليا للمشاريع والإرث في قطر، محمد الهاجري، إلى قيام اللجنة بمبادرات رئيسية نفذتها بهدف ضمان حماية حقوق الإنسان، شملت خطة سدادٍ شاملة لرسوم التوظيف التي دفعها العمال في بلدانهم قبل القدوم إلى قطر، وآليات التظلم والشكاوى، ومنتديات لرعاية العمال. أليس في هذا مؤشّرٌ قابل للقياس على التزام قطر معايير شفافة تنمّ عن تصرّفٍ سليمٍ بمنطق الحرص على الحقوق الإنسانية؟ نعم، هو الأمرُ كذلك، لكن يبقى أن يتعامل المنتقدون بعدل مع من ينتقدونهم، لا أن يكيلوا بمكيالين أو أكثر حسبما يطيب هواهم ويميل خاطرهم.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود