حزب الله محاضراً في حقوق السوريين

19 مايو 2024

أنصار لحزب الله يستمعون إلى خطاب متلفز لأمينه العام نصر الله في بيروت (3/11/2023/الأناضول)

+ الخط -

ليست الحياة البشرية أكثر من قصّة، تختلف تفاصيلها باختلاف الرواة، وجمهور المتابعين، وزمان الرواية، ومكانها. ثمّة سردياتٌ متناقضةٌ للحدث التاريخي الواحد، فبينما يكون امرؤٌ بطلاً في إحداها يكون هو ذاته مجرماً في نقيضتها. وبينما يهلّل له الجمهور وتنحني له الهامات هنا، تراه ذاته مَحلّ سخرية هناك أو تُضرب صوره أو تماثيله بالقمامة والنعال. الزمان بعدٌ متحوّلٌ في كلّ قصّة، تتنقلُ عبره الأحداثُ لتتحوّل أساطير مقدّسة، أحياناً، أو لعناتٍ تسكن الذاكرة الجمعيّة لمجموعة بشرية ما، في أحايين أُخر. أمّا المكان فهو الشاهد الذي لا يزول بزوال البشر، إنّه الشاهد الصامت الذي يستنطقه التاريخ وتستحلفه الذكريات وترجوه الأماني، حتّى ولو تغيّرت ملامحه أو اندثرت معالمه، فالصورة المُتخيّلة تبقى حيّةً من خلال السرديّات المتصارعة ذاتها.

لم يفاجئنا، نحن السوريين، مجلسُ النواب اللبناني بتوصياته للحكومة اللبنانية ترحيل "النازحين غير الشرعيين" منّا خارج لبنان، فالبرلمان مرآة المجتمع هناك حقاً، حتّى لو كانت بعض القوى المجتمعية غير ممثلة فيه بشكل متناسب وحجمها. ثمّة رأي شبه سائد في لبنان يحاول القفز عن الواقع الذي كرّسه حكم أمراء الحرب ليلقي بالملامة على السوريين في مآسي لبنان كلّها. نعم كان السوريون جزءاً من أسباب المأساة اللبنانية المتطاولة منذ عقود، لكن، ليس كلّ السوريين، ولا حتّى بتجريد الصفة وتعميمها عليهم لتشمل الجميع. كلّ العالم يعرف، وقبل العالم كلّه، يعرفُ اللبنانيون جيدًا، أنّ نظام الحكم في سورية لا يمثّل السوريين، بل هؤلاء قد ثارت غالبيتهم عليه، ودفعت أثماناً باهظة لثورتها ضدّه، مئات آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين، وملايين المشرّدين النازحين واللاجئين. فهل ينسى أشقاؤنا السكّين الملطّخة بدمائنا ودمائهم، ويتذكّرون الجرح الذي يَكْلُمُهم فقط، بينما يزيدون في جرحنا غوراً ويشدّون الحبل على رقابنا مع الجلاد تارّةً ونيابة عنه تارّات؟ وهل لبرلمانٍ أن ينسى أعضاؤه، وهم يمثّلون سلطة التشريع المُفترض أن تكون أعمالها متوافقة والقوانين الدولية وشرعة حقوق الإنسان، ما توجبه هذه الشرعة وهذه القوانين الدوليةُ حيال اللاجئين؟ أم يظّن الأشقاء أنّ إلباس اللاجئين ثوب النزوح سيحميهم من لعنة المستقبل إذ يهربون من استحقاقات الحاضر؟ سيكتبون التاريخ، نعم، وسيروون القصّة كما يريدون، لكنّ أصابعنا على القلم أيضاً وذاكرتنا ليست ذاكرة السمك.

 لم يعد ثمّة ما يفاجئنا أبداً، فالوقاحة إذ تفيض عن الحدّ تصبح تسلية أيضاً

لم يفاجئنا أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، أيضاً، عندما طالب السلطات السياسية في لبنان الكبير بفتح البحر أمام سفننا لتعبر إلى أوروبا، فهو يعرف أكثر منّا أننا كنّا على الدوام نرغب العيش هناك، ومذ كنّا في المهد، حيث الحلمُ السوري الوحيد هو الهجرة وترك البلد، هو يعرف أكثر منّا أننا لا ننتمي لسوريتنا، فنحن هواة التغريب وجمع الطوابع والتحف. لقد خبرناه قبلاً عندما عبرت جحافل مليشياته الحدود إلينا لتحتلّ القصير والزبداني والنبك، وغيرها كثير من مدننا وقرانا. وقتها، لم يكن الأمر يحتاج من "الدولة اللبنانية" إلا قرار "الحياد" و"النأي بالنفس" عن المقتلة السورية، وكأنّ نصر الله وجنوده يحملون جنسية جزيرة مدغشقر، ويتكلمون لغة أهل حضارة المايا، كأنّ عماماتهم من هضبة التيبت وعباءاتهم جبال الهملايا. لم يفاجئنا عندما طالب أن يكون هناك "قرارٌ شجاعٌ" فقط، لحلّ مأساتنا، وهذا لا يكون إلا بموقف واضح وصريح من قانون قيصر والكبتاغون، لا يكون إلا بالاعتراف بانتصاره وأسده علينا وإعادة تدويرهما ليمكثا مجدّداً على صدورنا. لم يعد ثمّة ما يفاجئنا أبداً، فالوقاحة إذ تفيض عن الحدّ تصبح تسلية أيضاً، ونحن لسنا أقلّ من المصريين إذ يصنعون من المأساة نُكتة يعبرون بها سماجة القصّة الراهنة إلى فضاء المستقبل المُشتهى.

لم يفاجئنا نصر الله عندما طالب السلطات في لبنان بفتح البحر أمام سفننا لتعبر إلى أوروبا

لم يفاجئنا وليد جنبلاط بثباته على الحق، فهو أوّل من اكتوى بنيران جلادنا، وهو وإن راوغ في دهاليز السياسة ليعبر هو وقسمٌ من اللبنانيين سراط الأيام السوداء الممحلة، إلا أنّه يبقى راية للضمير الحرّ والكلمة الشجاعة المسؤولة. لم يفاجئنا من سمير جعجعَ كثيراً دفاعاً عن لبنان في وجه الجلاد، فالبوصلة عنده لا تؤشّر دوماً إلى الشمال الحقيقي لأنّها ملوّثة بلعنة العماء المقدّس، وشهوة السلطة، التي حُرم منها بعد اتفاق الطائف. لم يفاجئنا خطابُ الذين لم تنعم كعاب أرجلهم بعدُ، ولم تنظف ثيابهم من دماء أبناء جلدتهم وأبناء عمومتهم عندما وضعوا يدهم في يد المُحتلّ الإسرائيلي. هؤلاء لهم سرديّتهم التي تختزن الذاكرةُ تفاصيلها، وتحيل إليها كلما دقّ الكوز بالجرّة، ونحن لنا سرديتنا أيضاً، ولن ننسى ما فعلوه بنا وبإخوة لنا من فلسطين.

لا بأس، ستمضي الأيامُ بسياطها على ظهورنا، سنعدّ على أصابعنا الوقت المقدّر لنا أن نكون فيه المُستضعَفين في الأرض، ومع تسبيحات العجائز سنستذكّر من وقف معنا، ومن انفطر قلبه لألمنا، لكنّنا لن نكون استثناءً من غيرنا، لنقول إنّنا سننسى من احتلّ أرضنا ودمّر بيوتنا وأهاننا عندما هربنا من الجلاد إليه، فنحن لسنا ملائكة، ولا ينبغي أن نكون. حتّى وإن نسي حسن نصر الله كيف فتحنا لأهل الجنوب بيوتنا أيام حرب تمّوز (2006)، فنحن لن ننسى غيرته علينا ومطالبته بـ "القرارِ الشجاعِ" لفتح الموانئ أمامنا لنركب عباب البحر إلى الجنّة الأوروبية الموعودة. لن ننسى الخطيب المفوّه إذ يحاضر فينا دفاعاً عن حقوقنا ووجودنا، وهل ينسى الضحايا وجه قاتلهم؟ ... لا بأس، ستمضي الأيامُ وسيبقى من قصّة نصر الله ما يستذكره التاريخ من قصّة خطبة العاهر إذ تحاضر بالشرف (!)

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود