عيد الأم طقساً سياسياً للدعاية

28 مارس 2022

(بابلو بيكاسو)

+ الخط -

تخبرنا دراسات الأنثروبولوجيا أنّ الطقس يتجاوز النسق الديني، ليصبح موضوعاً للسلطة، ويتمحور حولها. وإذا كان الطقس مكوّنا للدين بجانب المعتقد، حسب رؤية الباحث السوري فراس السواح، فإنّه مرتكزٌ للسلطة عند بعض علماء الأنثروبولوجيا السياسية، وإحدى أدوات السلطة لتعزيز الشرعية، كما يحافظ الطقس، ضمن وظائفه المتعدّدة، على وحدة الجماعة السياسية وتجانسها، أو ممثلي الطبقات الحاكمة بتعبير ماركسي. في كتابه "الأنثروبولوجيا السياسية... مقدمة لدراسة النظم السياسية في المجتمعات القبلية" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1981)، يرى محمد محجوب أنّ في الإمكان المقاربة بين طقوس سياسية في مجتمعات قديمة وأخرى حديثة. وكمثال، حلل ماثيو أنجليكه كيف يلعب الطقس ركناً في شرعية المنصب، حينما تناول مشهد إعادة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، حلف القسم، ثاني يوم تنصيبه (يناير/ كانون الثاني 2009)، لتجاوز خط المحلفين في ترتيب نص حلف اليمين. فعلها أوباما ليكتسب الاعتراف الاجتماعي شرطاً للشرعية، على الرغم من أنّ المسألة شكلية. وإذا كان الطقس اجتماعياً يجمع نسيج الجماعة، فإنّ الطقس السياسي يجمع مكونات السلطة السياسية، ويحافظ على تماسكها وإحساسها بوجود روابط. وخلاله تجرى عمليات تبادل مصالح فيما بينها، وتشكّل المناسبات الاجتماعية فرصة وإطارا للتفاعل، وأداة للدعاية والترويج السياسي على مستوى محلي محدود أو على مستوى قومي، وتبرز من خلاله وتتأكد الأدوار والمكانة داخل النسق السياسي. وبإمكان السلطة أن توظف المناسبات الاجتماعية كدائرة للتفاعل بين مكوناتها وبين دوائر أوسع من مؤيديها. وتظهر من خلالها، في أحيان كثيرة، عمليات التنافس بين مكونات النظام نفسه، خصوصا حين تقدّم فروض الولاء، القرابين بمصطلح قديم، وكيف تصبّ جهود الأطراف في خدمة الأهداف الوطنية العامة والعليا، والمتصلة بطبيعة الحال بمساندة النظام السياسي.

ويمكن في السياق، تحليل ما جرى من وقائع احتفال متكرّرة بيوم المرأة وعيد الأم والطفولة وغيرها من مناسبات، حيث يُلاحظ أن النظم السلطوية عموما تتّخذ من قضايا النساء والطفولة موضوعا دعائيا. يلتقي متّخذو القرار وممثلو الجهات المعنية، وتتكرّر عبارات الإجلال والتقدير والشكر، وتمتلئ القاعات برسائل المحبة المتبادلة، بجانب تقارير مصوّرة وأغنيات مبهجة تطورت تقنيا، وتمثل فواصل بين كلمات المسؤولين عن إعجاز فى أداء الهيئات والمؤسسات، وقدرة على تجاوز التحدّيات تحت توجهات القيادة السياسية. بطبيعة الدعاية نفسها، مهما اختلفت العصور، نجد النساء تشهد أزهى عصورهن، أو عصرهن الذهبي، بعدما صُهر الحديد، وكسرت الحواجز، إلى آخر التعبيرات الإنشائية المكرّرة، وغرضها أن يبقى مسؤولو تلك الهيئات في أماكنهم، مرضياً عنهم، وأن تبقى صورة السلطة بهم وعبرهم تحقق الإنجازات.

الطقس السياسي يجمع مكونات السلطة السياسية، ويحافظ على تماسكها وإحساسها بوجود روابط

منذ خاضت سوزان مبارك العمل الاجتماعي في مصر بداية التسعينيات، أصبح موضوع المرأة سلطوياً ودعائياً بشكل بارز. يكرّم مبارك الأمهات، وتلقّب قرينته بـ"ماما سوزان"، لكن ذلك المشهد المصطنع لم يغير من حقائق الأمور، ولم تفكّك الدعاية الأزمات. هذا درس التاريخ لمن يريد التبصّر. تظلّ المساحة بين الخطابات والتمنيات قائمة، ويظل الواقع ثقيلاً، طالما ليست هناك شواهد على تغير أحوال الناس عموماً، أو الفئة محل الاحتفاء، والظن أن البيانات عن إنجازات وخدمات تقدّم للنساء أو غيرهم بما فيها من مبالغات، قادرة على التأثير. ولأنّ الكلام ليس عليه جمرك، بالإمكان أن يقال إن إحدى الهيئات النسوية، التابعة للدولة، قدّمت خدماتها لأكثر من 30 مليون امرأة. وليست سطور هذا المقال في مجال مناقشة هذه الأرقام في ظل أزمة أعمق، تعانيها الأسر عموماً، والمرأة والأطفال خصوصاً، كما ارتفاع الأسعار وصعوبة ظروف المعيشة، خلال موجتين للتضخّم، مع انخفاض الجنيه، واستمرار برنامج التقشف، وعدم ملاءمة الإنفاق على خدمات الصحة والتعليم لمقتضيات الضرورة، وعدم وصولها إلى نسبٍ أقرّها الدستور. صحيح أنّ هناك اهتماماً في ما يتعلق بالتشريعات المتعلقة بالعنف، وزيادة في نسب التمثيل السياسي، لكنّ ذلك التغير شكلي وهامشي، ولن يترك أثراً كما يتصوّر بعضهم، لأنّه لا يخاطب جذور المشكلات، فأيّ زيادة في التمثيل في أجواء سلطوية تختار من سيكون في المواقع التنفيذية، وحتى التشريعية، كما أنّ أوضاع النساء في ما يتعلق بمؤشرات اقتصادية واجتماعية ضمن سياق عام تتراجع، لكن لا حضور إلّا للدعاية والثناء والتغنّي بالإنجازات، ضمن سياقٍ طقسي، كما جرى في احتفالية عيد الأم الأربعاء 23 مارس/ آذار الجاري، والتي كانت تجسيداً للدعاية والكليشيه، لا يلحظ حتى مطالب توجهها النساء إلى السلطة التنفيذية، بوصفها أبوية وراعية كما تحب أن تكون، أو كما يريد المحتفلون من تسويات الدولة، على عكس منطلقات النسوية أصلاً، لكنّ هذا شأن آخر. في الحفل الكلُّ سعيد وراض، والنساء خارج الحفل سعيدات، طبقاً لحملات طرق الأبواب التي التقت "بملايين النساء"، مرّة للتوعية والتحذير من أهل الشر وخطورة الإشاعات واستخدام وسائل التواصل، ومرّة لتوضح أهمية برنامج الإصلاح الاقتصادي.

الكلُّ في حفل عيد الأم سعيد مبتهج بالإنجازات التي تؤكد عليها عينة مختارة تعرف دورها لأداء الطقس السياسي الدعائي

كان الحفل طقساً سياسياً، وفرصةً لتقديم كشف حساب عن الدعاية السياسية، وربما أكثر من هيئات الاتحاد الاشتراكي. تذكر نوال السعداوي إحدى الوقائع الدالّة، في أكثر من لقاء إعلامي وفي كتابها "ملك وامرأة وإله"، عن نقاش نخبوي دار في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية، جدل حول تعريف الفلاح. كان جمال عبد الناصر على المنصّة وحوله رجال الدولة، يسمع النخب تتبارى في صكّ تعريف مراوغ يسمح بدخولهم وضباط الجيش وأصحاب الأموال مجلس الشعب تحت فئة العمال والفلاحين، فقالت الطبيبة الشابة حينها، وكانت تعمل في الريف، وبتلقائية صادمة، إنّ الفلاح هو "من لون بوله أحمر" في إشارة إلى إصابة الفلاحين بالبلهارسيا، وقفت نوال تقرّر حالة الفلاح، كما كانت تقرّر حال المرأة، حقوق النساء ليس طريقها، عبارات إنسانية وعاطفية أو مجاملات وتقدير للنساء على أدوراهن رغم أهمية الكلام الطيب. حقوق النساء تبدأ من الإقرار بمشكلاتهن الحقيقية والسير في حلها، حتى وإن استغرقت سنوات، غير أنّ تلك المشكلات ضمن سياقات عامة، وليست منعزلة عن مشكلات المجتمع.

لكن، في حفل عيد الأم، كان الكلّ سعيداً مبتهجاً بالإنجازات التي تؤكد عليها عينة مختارة تعرف دورها لأداء الطقس السياسي الدعائي، جسد السلطة السياسي، المختص بالدعاية السياسية بين النساء، يضع، بمشاركة خبراء وخبيرات، استراتيجية النهوض بالمرأة، وآخرين يضعون استراتيجياتٍ لحقوق الإنسان والمجتمع المدني، ويتباهى أصحاب الرؤى الاستراتيجية، بإعجاب وشهادات دولية حول أفكارهم وخطاطاتهم، حين عرضت في جنيف ونيويورك خلال فاعلياتٍ دولية، بينما شهادات الداخل وشكاواه لا قيمة لهما. تكفي حالة الفخر بالعرض خارجياً وشهادة الخواجة، لا حاجة في هذه الأجواء، أو ربما يعكّر الصفو، استدعاء واقع قاسٍ للنساء، الطقس هدفه الاحتفاء والدعاية، فلا داعي للمنغّصات.

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".