عودة فلسطينية إلى شمّاعة الانقسام

25 نوفمبر 2020
+ الخط -

لم تمض سوى أيام قليلة على خسارة الرئيس الأميركي ترامب المعركة الانتخابية الرئاسية، حتى أطلعنا رئيس هيئة الشؤون المدنية الفلسطينية وعضو اللجنة المركزية في حركة فتح، حسين الشيخ، على أحدث قرارات قيادة السلطة الفلسطينية؛ عودة العلاقات مع إسرائيل كما كانت. لتتوالى لاحقا ردود الفعل الشعبية والفصائلية الرافضة والمستهجنة لهذا القرار على المستويين، الشعبي والفصائلي، نظرا إلى اعتبارات عديدة، إذ عدّت الفصائل الفلسطينية القرار السلطوي خروجا عن الإجماع الوطني وقرارات اجتماع الأمناء العامين، وطعنة لجهود المصالحة الوطنية. فضلاً عن أنه يعبر عن عجز السلطة واستسلامها، ومراهنة خاطئة على الإدارة الأميركية الديمقراطية المقبلة برئاسة الرئيس الجديد، جو بايدن.
في المقابل، بدأت الأصوات الفتحاوية في استعادة الأسطوانة المتكرّرة دائما، عبر تحميل الانقسام الفلسطيني مسؤولية هذا القرار، والمزاودة على جميع رافضي قرار السلطة والاستهزاء بهم عبر مطالبتهم بفتح الجبهات مع الدولة الصهيونية. وكأن الانقسام وحده ما حدّ من قدرة السلطة على مواصلة قرار وقف التنسيق مع الدولة الصهيونية، بتجاهل كامل لحقيقة قدرات (وظروف) السلطة الواهنة التي تتحمل مسؤوليتها قيادتها أولا، وحركة فتح ثانيا، ومجمل فصائل العمل الوطني ومنظمة التحرير ثالثا، فمنذ اتخاذ السلطة قرار إيقاف جميع أشكال التنسيق، بما فيها الأمني، حذّرت، كغيري، من عبثية هذا القرار وفق الشكل والآلية التي تمّت، فالقرار صدر من دون مقدمات لوجستية وسياسية تسبقه، ما حدّ من قدرة السلطة على فك ارتباطها مع الدولة الصهيونية، أو على الأقل من تقليل اعتمادها عليها ولو اقتصاديا. الأمر الذي جعلني، كغيري، على يقينٍ من عجز السلطة على المضي طويلا بهذا القرار، على فرض التزام السلطة بقرار وقف التنسيق في دوائرها الخفية، وذلك في مقالة في "العربي الجديد" بتاريخ 03/6/2020 بعنوان "محمود عباس والكفاح المسلح .. غيض من فيض"، فالسلطة عاجزة عن المضي في قرار وقف التنسيق الشامل وفق رؤية استراتيجية صلبة ومتماسكة، تسعى إلى استعادة الحق الفلسطيني، قبل عودة التنسيق مع الدولة الصهيونية، سواء اتخذ القرار في ظل وحدة الجسم السياسي الفلسطيني أو انقسامه، ومن دون تدابير لوجستية تسبقه اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. فوفق اتفاق أوسلو الكارثي، واتفاق باريس الاقتصادي، ومجمل الاتفاقات الموقعة مع الدولة الصهيونية، تسيطر الأخيرة على جميع منافذ السلطة ومصادر دخلها وحركة السلع والبشر منها وإليها وداخلها، فضلا عن تحكّمها بالإمكانات الصحية والتقنية والتعليمية. ما يفرض على السلطة نمطا تبعيا محكما جداً، الأمر الذي يجرّدها من أبسط أدوات المقاومة أو حتى الرفض والامتناع.

فرق كبير بين القرارات العبثية والمتسرعة للسلطة وتهيئة البيئة السياسية والاجتماعية لانتهاج خط نضالي مغاير.

من ناحية سياسية، نجد فرقا كبيرا بين القرارات العبثية والمتسرعة للسلطة وتهيئة البيئة السياسية والاجتماعية لانتهاج خط نضالي مغاير. وبخصوص السلطة وقراراتها الفوضوية والكارثية، لا خلاف بشـأن تخبطها وانفعاليتها وافتقادها الحد الأدنى من التناسق فيما بينها، حيث لم تبادر السلطة إلى أيّ ترتيبات فلسطينية تعزّز قدرتها على وقف التنسيق قبل صدور القرار، تماما كما لم تتمكّن من فرض أي تنازل صهيوني واضح يبرّر تراجعها، بل على العكس تدعي السلطة اليوم استلامها رسائل صهيونية تعبر عن التزام صهيوني بجميع الاتفاقات الموقعة، من دون أن يترافق مع أي تصريح صهيوني علني في ذلك، في حين تلهث السلطة إلى إعلان عودة الاتصالات والتنسيق من دون أي مواربة تذكر، وهو ما يعطي انطباعا صحيحا غالبا بأن وقف التنسيق قد أرهق كاهل السلطة أضعافا مضاعفة عمّا تكبدته الصهيونية من جرّائه. ثم كيف للسلطة الوثوق بهذه الرسالة الصهيونية؛ على فرض وجودها أصلا؛ بعد تنكّر الدولة الصهيونية ميدانيا لجميع الاتفاقيات، وفي مقدمها اتفاق أوسلو.

قرار إعادة الاتصالات مع الدولة الصهيونية صدر من دون مقدمات لوجستية وسياسية تسبقه، ما حدّ من قدرة السلطة على فك ارتباطها مع الاحتلال

أما بخصوص لعبة المزاودة الفصائلية، سيما بين حركتي فتح وحماس، وإصرار السلطة، أو كتلتها الاجتماعية على الاستخفاف بجميع الانتقادات الموجهة إلى السلطة و"فتح" على اعتبارها الفصيل المهيمن على السلطة والمنظمة، فمن المهم الإشارة إلى سخافة هذا الخطاب التضليلي، سلطويا وفتحاويا. واتفاقي مع ضرورة العمل على مقاومة الدولة الصهيونية العنصرية والاستعمارية ومواجهتها، انطلاقا من نهج تحرّري يتصدّى لها عبر ممارسة جميع أشكال النضال المشروعة، بما فيها العمل الفدائي، بعيدا عن مزاودات حركتي حماس والجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبيتين (القيادة العامة وجورج حبش). ولكن هل تسمح السلطة بذلك فرديا أو جماعيا؟ فليعد المستفزّون من نقد الفصائل والشارع الفلسطيني المسار السلطوي والفتحاوي المخزي إلى تصريحات الرئيس محمود عباس المتبجّحة بدور السلطة الوظيفي في حماية الدولة الصهيونية، ليطالعوا رد عباس عن السؤال السابق، ومن ثم ليحسموا أمرهم؛ فإما أن يدعموا السلطة في ممارسة دورها الذي أنشئ من أجله في حماية المنظومة الصهيونية؛ أو أن يدعموا النضال الفلسطيني التحرّري، الشعبي والفردي، السلمي وغير السلمي، فهذان مساران لن يلتقيا أبدا (السلطة الوظيفية والنضال التحرّري).

 الأصوات الفتحاوية حمّلت الانقسام مسؤولية قرار إعادة التنسيق مع الدولة الصهيونية وكأن الانقسام وحده ما حدّ من قدرة السلطة على مواصلة قرار وقفه

في النهاية، تجد السلطة وحركة فتح ومحمود عباس تحديدا في الانقسام الفلسطيني شمّاعة يعلق عليها الجميع خيباتهم وأخطاءهم، فهي ذريعة مناسبة للتهرّب من تحمّل مسؤوليتهم عن الفشل والحضيض الذي قادونا إليه، وحجّة ملائمة لحشد كتل شعبية انفعالية ما زالت أسيرة ماضٍ براق، لم يعد له أي تجسيد اليوم، بل على العكس قد تحول إلى ستار يحجب توجهات وممارساتٍ عديدة تضر بقضيتنا الوطنية وبمصلحة الشعب الفلسطيني قاطبة. لذا نشهد بسهولة اصطفافا غوغائيا موجّها ظاهريا ضد بيانات الفصائل الناقدة والرافضة الخطوة السلطوية، وموجها باطنيا ضد جميع الأصوات الناقدة للسلطة، مهما كان مصدرها وفحواها، إذ يتناسى هؤلاء سقطة السلطة الجديدة تماما، كما تناسوا التي سبقتها، بذريعة الدفاع عن تاريخ حركة فتح ومكانتها ودورها! مع أنهم بذلك يساهمون في تشويه ماضي الحركة، وطبعا حاضرها، أولا عبر حماية الفئة المتحكمة بالحركة والسلطة ممن نسفوا أو ينسفون مجمل ماضيها النضالي، وعبر حماية النهج الذي يتناقض مع الأسس التي انطلقت منها الحركة، وجعلتها تحتل هذه المكانة الفلسطينية والعربية والعالمية البارزة، قبل أن تفقد جزأها الأكبر، نتيجة سيطرة الانهزاميين والاستسلاميين والانتهازيين على قيادتها.