عودة إلى مبادرة "خطوة خطوة" مع دمشق
تفيد الزيارات المتعدّدة لمستشار البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكجورك، إلى دول عربية، وبحث فيها مسارات تتعلق بالملف السوري، بأن واشنطن هذه المرّة هي من حرّك إعادة إحياء المبادرة الأممية "خطوة مقابل خطوة"، والتي كانت عمّان قد تبنتها، ثم أبوظبي والرياض، وبناءً عليها أعيدت سورية إلى مقعدها في جامعة الدول العربية، منتصف العام الماضي. أعادت الإمارات والسعودية سفيريهما إلى دمشق أخيراً، فيما تُعَدّ الخطوة المقابلة المطلوبة من دمشق تنازلاً كبيراً، وهي التعاون على تقويض النفوذ الإيراني في سورية. ويبدو أن المطلوب أن يقابلها نفوذ عربي خليجي، في عودة إلى منطق إرساء توازن بين الخليج وإيران في النفوذ في سورية ولبنان وفلسطين. كان إعلام النظام السوري قد تبنّى موقفاً داعماً لغزّة عقب عملية طوفان الأقصى، وهاجم الدول المطبّعة مع إسرائيل، لكنه انكفأ سريعاً عن هذا الموقف بعد التصعيد الذي تبنَّته أذرع إيران في كل المنطقة ضد إسرائيل وضد الوجود الأميركي في سورية والعراق؛ وهو ما دفع نظام دمشق إلى التحرّك، وإجراء تغييرات داخلية في الجيش والأجهزة الأمنية، ومحاربة الفساد، وإعادة تفعيل دور حزب البعث، مرسلاً بذلك إشاراتٍ إلى واشنطن والعرب بعدم نيّته الانخراط في فتح جبهة مع إسرائيل من جهة، وأنه قادر على تفعيل مؤسّسات الدولة مجدّداً، وأن دوره أساسي في مستقبل سورية، ومن ضمنها مكافحة الكبتاغون، وتلتقي عنده مصالح أطراف متعدّدة، منها الولايات المتحدة والعرب وإسرائيل.
هذا لا يعني أن إدارة بايدن باتت معنيةً بإعادة تأهيل النظام السوري، رغم أن التصريحات الأميركية السابقة كانت تطلب من نظام دمشق "تغيير سلوكه" شرطاً لإسقاط العقوبات المفروضة عليه، وللسماح للدول التي أعادت علاقاتها معه أن تمضي في استثماراتها في سورية. الإدارة الأميركية معنية بالانتخابات بعد أقل من عام، وحظوظ الرئيس بايدن بالفوز مجدّداً تتراجع، خصوصاً مع الفشل الإسرائيلي في حسم سريع للمعركة في غزّة، رغم الدعم الأميركي السخي، الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي لتل أبيب. وتتضمّن عقيدة بايدن الجديدة في الشرق الأوسط، والتي يبدو أنها ستكون جزءاً من برنامجه الانتخابي، ثلاثة ملفّات مترابطة، وهي موقفٌ حازمٌ من إيران واستفزازاتها العسكرية، ومبادرة دبلوماسية أميركية لإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة الغربية وغزّة، وإنشاء تحالف أمني إقليمي واسع يشمل إسرائيل والفلسطينيين والعرب. إذ يبحث بايدن عن أوراق جديدة يحقق عبرها الإنجازات، ومنها الملف السوري، ومن زاوية تقليص نفوذ إيران في سورية لمعاقبتها على اعتداء المليشيات التابعة لها على القواعد الأميركية المنتشرة في العراق وسورية؛ وأيضاً لمنح حلفائه في الخليج دوراً موازناً في سورية، وإفشال التقارب السعودي الإيراني برعاية صينية، والمضي في إنشاء "ناتو" عربي، تقوده إسرائيل بحكم تفوّقها العسكري النوعي.
عجزت موسكو عن تقديم بدائل سياسية عن النظام، ووضعت كل بيضها في سلة استمراره في الحكم
يحاول النظام السوري، عبر تغييرات داخلية شكلية بشأن تفعيل مؤسّسات الدولة ومحاربة الفساد، أن يوحي بقدرته على السيطرة والحكم والابتعاد عن طهران. واقع الحال أن بنية نظام دمشق متآكلة من الداخل، يتحكّم بها أمراء الحرب المرتبطون بالعائلة الحاكمة، ومن ضمنهم تجّار الكبتاغون؛ ويعتاش اقتصاد النظام على الضرائب وعلى سحب العملات الصعبة من جيوب السوريين، وخصوصاً ما يصل إلى الداخل من تحويلات المغتربين، ويسن القوانين والعقوبات التي تخفّف من انحدار قيمة الليرة السورية، من دون أن يلقي بالاً لارتفاع أسعار السلع الأساسية الجنوني الذي يُحدث أزمة معيشية خانقة. الأهم أن النظام، منذ 2013، مسنود بالتدخّل الإيراني المليشياوي، وطهران تجيد التغلغل في دوائر القرار السوري، وقد اكتسبت قدرة على التحرّك داخل الأراضي السورية من دون أي تدخل من النظام ومخابراته. وبالتالي، بات بقاء النظام في الحكم مرهوناً بهذا الوجود الإيراني في سورية، ومن غير المرجّح أن يقبل مبادراتٍ تحدّد صلاحياته في الحكم في مرحلة انتقالية وصولاً إلى تطبيق قرار مجلس الأمن 2254. وتحتاج هذه الفرضية تنسيقاً أميركياً مع الروس لا يسمح به الوضع الدولي المتأزم؛ وموسكو راغبة في تقليص الوجود الإيراني في سورية، بسبب منافسة طهران لها على الاستثمارات، وبسبب تفوّق الأخيرة في القدرة على السيطرة على الأرض والتوغل في دوائر النظام الضيقة.
ترى روسيا في العودة إلى مبادرة "خطوة خطوة" فرصة لفتح قنوات تواصل مع الأميركيين، وإن غير مباشرة، قد تقود إلى تفاهماتٍ بشأن سورية
رغم ذلك، تعتمد روسيا على المليشيات التابعة لإيران للحفاظ على مناطق سيطرة النظام، خاصة أن جيشه منهك، وأن الجبهات السورية المختلفة بين خطوط التماسّ ما زالت في حالة تسخين وقابلة للتفجّر، طالما أنه لا توجد اتفاقيات نهائية تقود إلى تسوية سياسية، وهي غير مستعدّة لدفع تكاليف تجنيد المقاتلين كما تفعل طهران. وفوق ذلك، عجزت موسكو عن تقديم بدائل سياسية عن النظام، ووضعت كل بيضها في سلة استمراره في الحكم؛ لكنها، في الوقت نفسه، لم تجنِ ثمار تدخّلها العسكري في سورية، خصوصا عقود الاستثمار طويلة الأمد التي استحوذت عليها، ويحتاج هذا إلى انفراج سياسي وإزالة العقوبات الاقتصادية عن سورية والسماح بتدفق أموال إعادة الإعمار. لذلك لا تعارض موسكو الخطوات العربية بانفتاح جديد على دمشق، بل وتدعمها، وتدعم ابتعاد النظام عن إيران. وعلى العكس من ذلك، طهران منزعجة من النظام؛ اتهمت أجهزته الأمنية بتسريب معلومات حول تحرّكات مستشاري الحرس الثوري في دمشق، الذين قُتِلوا في ضربة إسرائيلية نوعية في حي المزة، وطلبت كذلك من النظام توضيحاتٍ حول مبادرة "الخطوة خطوة"، وسحبت ضبّاطها من سورية لتقليل حجم الخسائر بسبب الانتقامات الإسرائيلية والأميركية. لكن طهران تمتلك ديناميكية عالية تمكّنها من التأقلم مع الوضع الجديد وإعادة تموضع مليشياتها في سورية، وتقليل الأضرار.
الخطوة المطلوبة من دمشق، وهي الابتعاد عن طهران، تعني رضوخَه لمتطلبات المرحلة الانتقالية، وقبوله التخلّي عن السلطة؛ فحجم العقوبات والإدانات الدولية له تمنع إعادة تعويمه سياسياً. يحتاج الحل السياسي إلى ترتيبات أميركية - روسية وبمشاركة تركية، حتى يكون لهذه الخطوة معنى؛ ترى روسيا في العودة إلى مبادرة "خطوة خطوة" فرصة لفتح قنوات تواصل مع الأميركيين، ولو غير مباشرة، قد تقود إلى تفاهماتٍ بشأن سورية، وتفتح طريق الصفقات في أوكرانيا. وغير ذلك، ستبقى الخطوة العربية المقدّمة للنظام رمزية، مقابل تقديمه خطواتٍ شكلية، ما يعني على المدى القريب استمرار الاستنقاع السوري.