بريكس انعكاسُ تحوّلِ النظام العالمي
تتعاطى الولايات المتحدة مع تحالف بريكس بشيءٍ من اللامبالاة، وتعتقد أنها، بقوة اقتصادها وتفوقها العسكري، قادرة على الاستمرار بسياسة الهيمنة الاقتصادية والمالية على العالم. وفي الوقت نفسه، تحذّر تقارير غربية من مستقبل هذا الحلف، وتقدِّم توصياتٍ بخصوص احتوائه. وبالفعل، يتَّبِع الغرب سياسة عدم العداء للحلف، خاصّة أن واشنطن تملك علاقات استراتيجية وتقيم تحالفات راسخة مع معظم الدول المنضمّة إليه، مع انخراطٍ أكثرَ مع دول الجنوب العالمي الغنية بالثروات، كالمعادن النفيسة في الأمازون؛ حيث أنشأت مجموعة البنك الدولي "صندوق الخسائر والأضرار المناخية" في يونيو/ حزيران الماضي، لمساعدة الدول النامية في التكيف المناخي والانتقال إلى هيكل مالي أكثر عدالة في التعامل مع المناخ، وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة "ميثاق المستقبل" الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، لإصلاح نظام الحوكمة العالمية.
تتشارك الدول التي أنشأت تحالف بريكس في أنها اقتصادات ناشئة، تشكل ما مجموعه ثلث حجم الاقتصاد العالمي، وبمعيار تعادل القوة الشرائية تشكل 37% من الاقتصاد العالمي (كونها تضم ما مجموعه 45% من سكان الكرة الأرضية) و16% من التجارة العالمية و16% من الصادرات و15% من الواردات، وبعد انضمام السعودية والإمارات وإيران، صارت تسيطر في مجموعها على 80% من إنتاج النفط العالمي، و38% من إنتاج الغاز، و67% من إنتاج الفحم الحجري، وتتحكم في 50% من إنتاج الذهب، وتنتج أكثر من 30% من السلع بقيادة الصين والهند.
تدلل هذه الأرقام على أن اقتصادات الدول المنضمَّة إلى بريكس يمكنها أن تحقق تكاملاً إذا اجتمعت في هيكل موحد بما تمتلكه من نفط وغاز وتكنولوجيا وكفاءات بشرية وثروات زراعية وإمكانات عسكرية، ولكن ذلك لم يحصل إلى الآن، وقد مضى على تأسيس هذا التجمع 15 عاماً. فلا هيكلية رسميَّة له، ولا أمانة عامة يتم تدويرها بين الأعضاء، وليس فيها توجه أيديولوجي أو اقتصادي أو سياسي واضح، ولا اتفاقيات ملزمة للأعضاء، ولا توافقات في الأصل على تعريف ناجز لها.
الاتفاقات الثنائية حول التبادلات التجارية بالعملات المحلية بخصوص النفط بين الصين وكل من روسيا والسعودية والبرازيل ليست منجزاً لبريكس، بل للصين
روسيا، التي يفرض الغرب عقوباتٍ اقتصاديةً صارمة على اقتصادها بسبب حربها على أوكرانيا في 2022، تريد من بريكس أن يتحدى الاحتكار الاقتصادي والسياسي الغربي، ويشكل مؤسسات بديلة عن المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد والبنك الدولي. أما بكين، فلا تعترض على النظام الحالي القائم على حرية التجارة العالمية، كون صعودها الاقتصادي تم عبر هذا النظام، وعلاقاتها الاقتصادية والتجارية والمالية متشابكة ومعقدة مع الولايات المتحدة؛ فهي ثاني أكبر مقرضي أميركا بعد اليابان، بنسبة 2.6% من إجمالي الدين الأميركي، وليس من مصلحتها تحدّي المنظومة المالية العالمية، خاصة أنها تملك 3.3 ترليونات دولار احتياطياً أجنبياً، لكنها في الوقت نفسه تسعى إلى منافسة مع واشنطن للهيمنة على المنظومة نفسها. الهند هي الدولة الحليفة للولايات المتحدة، وتنافس الصين اقتصادياً وتختلف معها حول الحدود، وهي عضوة في تحالف رباعي أمني أنشأته الولايات المتحدة إلى جانب اليابان وأستراليا، للتصدي لزيادة النفوذ الصيني. أما باقي دول بريكس، بما فيها إيران (بعد حرب غزّة وتسلّم بزشكيان مقعد الرئاسة)، فهي ترفض تصنيفها معادية للغرب، بل هي أقرب أن تكون لا غربية، أو دول عدم الانحياز2، وحالة التنافس الصيني والروسي من جهة والأميركي- الغربي من جهة أخرى على كسبها يمنحها مرونة في علاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية كذلك.
لم يحقق مجتمعو بريكس هذا العام، سوى رفع عدد الدول الأعضاء إلى عشر، بالإضافة إلى بنك "التنمية الجديد" للقروض الميسرة بهدف التنمية للدول الأعضاء، و"ترتيب الاحتياطي الطارئ" للإقراض بالدولار انطلاقاً من العملات المحلية للدول التي تعاني عجزاً اقتصادياً (مصر مثلاً). وهناك مقترحات، روسية خصوصاً، بالتحضير لنظام "بريكس باي" بديلاً عن "سويفت" الغربي، و"بريكس كلير" لتسوية الدين والسندات بدلاً عن "يورو كلير"، وبورصة للحبوب والسلع الأساسية لأهميتها بعد تضرر سلاسل التوريد منذ أزمة كورونا ثم الحرب الروسية على أوكرانيا وحروب الشرق الأوسط. هذه الإجراءات ذات تأثير ضعيف، لكن الاهتمام الدولي الذي حظيت به قمة قازان الأخيرة في روسيا في 22 الشهر الفائت، وتمثيل 35 دولة و6 منظمات دولية، وحضور 24 من زعماء العالم وحضور الأمين العام للأمم المتحدة، أنتونيو غوتيرس، إضافة إلى أن 27 دولة تطلب الانضمام إلى بريكس، ومنها دول هامة، مثل تركيا وماليزيا وتايلاند وفنزويلا، يعكس ذلك كله اهتماماً ببريكس، وقلة ثقة بمؤسسات المجتمع الدولي، وقلقاً من الهيمنة الغربية عليها، وخشية من توسع استخدام الولايات المتحدة لنظام العقوبات الأحادية على الدول الأخرى. والأهم مما سبق أنه يعكس ضعفاً في المؤسسات الغربية التقليدية مردُّه هو الأزمات الاقتصادية المتتالية التي يعانيها الغرب.
"بريكس" ليس سوى منتدى رخو للدول الأكثر نمواً اقتصادياً في العالم، وأهميته تكمن في أهمية الدول المنضمة إليه
يمكن القول إن "بريكس" ليس سوى منتدى رخو للدول الأكثر نمواً اقتصادياً في العالم، وأهميته تكمن في أهمية الدول المنضمة إليه، وفي مقدمتها الصين الأقوى اقتصادياً، والتي تحسب واشنطن حساباً لصعودها، وروسيا الناقمة على الغرب. إن الاتفاقات الثنائية حول التبادلات التجارية بالعملات المحلية بخصوص النفط بين الصين وكل من روسيا والسعودية والبرازيل هي ليست منجزاً لبريكس، بل للصين. في الواقع إن أية خطوة يمكن أن يخطوها هذا التحالف الهش على صعيد المأسسة الرسمية في المديين، القريب والمتوسط، ستعني فشله؛ فرؤية الدول الأعضاء لهذا التَّجمع ومستقبله مختلفة، وأسباب انضمامهم كذلك، وموقفهم من نظام الحوكمة الاقتصادية والمالية في العالم السائد منذ الحرب العالمية الثانية واتفاق بريتون وودز الذي يقرُّ بهيمنة الدولار الأميركي، وهناك أيضاً خلافاتٌ جيوسياسية، وتنافسٌ اقتصادي بين الدول الأعضاء، خاصة الصين والهند، يهدِّد قدرةَ بريكس على البقاء الطويل الأمد.
التقييم السابق لبريكس يعطي بالفعل مؤشراً يعكسُ حجم الانزياح في مراكز القوة في العالم، وإن كان من المبكر جداً التنبؤ بماهية نظام عالمي جديد، متعدد الأقطاب. لكن حروب روسيا- أوكرانيا، والشرق الأوسط، والحشود العسكرية في الباسيفيك، والتحالفات العسكرية التي تعقدها واشنطن مع جيران الصين، مثل الهند وأستراليا، وعلى رأسها تحالف "أوكوس" للغواصات النووية مع بريطانيا وأستراليا، يعكس حجم تخوف الولايات المتحدة من صعود الصين الاقتصادي والتكنولوجي، وهي، في ظل عجزها عن التخلي عن سياسة تكبير ديونها للدول الأخرى، مستعدّة لشنّ حرب وجودية للحفاظ على هيمنة الدولار.