عن لولا دا سيلفا ومارغريت مينيزس

04 يناير 2023

رئيس البرازيل لولا دا سيلفا ووزيرة الثقافة مارغريت مينيزس في برازيليا (1/1/2023/فرانس برس)

+ الخط -

من ماسح أحذيةٍ وبائع خضار جوّال في أحياء مدينة سيتيس الفقيرة في شمال شرقي البرازيل إلى ميكانيكي سيارات وعامل في مصنع للصلب، وإلى ناشط نقابي، ثم رئيس لاتحاد عمال الصلب، ثم مؤسّس لحزب العمّال البرازيلي ومرشّح للبرلمان وللرئاسة، ورئيس لثماني سنوات سُجن بعدها بتهمةٍ ظالمة، وخرج من السجن بعد إعلان براءته، وترشّح لانتخابات الرئاسة أخيرا ليعود إلى القصر الرئاسي، بكل هيبته وبساطته ونزاهته، رئيسا لأربع سنوات بدأها في اليوم الأول من العام الجديد.

تلك هي باختصار قصة لويس إيناسيو لولا دا سيلفا (77 عاما) الذي يتمتّع بكاريزما عجيبة، ويعرف عند جيرانه وأصدقائه بأنه "صاحب اللسان الفضي"، والذي وصفه مرّة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بأنه "السياسي الأكثر شعبية على وجه الأرض"، وقد تحوّلت قصة كفاحه هذه إلى أسطورة مثيرة، يرويها البرازيليون بكل شغفٍ وحب، إذ هو من أنقذ بلاده من أزمتها الاقتصادية الخانقة التي واجهتها بدايات الألفية الثانية، والتي وضعتها على حافّة الهاوية ودفعتها إلى استجداء القروض والهبات من البنك الدولي ومن دول العالم، لكنها، في رئاسة لولا، كان فائضها المالي يزيد على مائتي مليار دولار. وفي عهده احتلت بلادُه المرتبة السابعة في سلّم اقتصادات العالم، ويرجع إليه الفضل في نقل أكثر من 20 مليون مواطن برازيلي من تحت خطّ الفقر، بفعل برامجه الاقتصادية والاجتماعية، التي نفذها في ولايتيه الأولى والثانية، ومن بينها برنامجه "بولسا فاميليا" لإعانة الفقراء، إذ خصّص لكل أسرة فقيرة مرتبا شهريا، شرط أن تبقي أطفالها في المدارس، ولا تدفعهم إلى سوق العمل أو للاستجداء في الشارع، وهو صاحب مقترح فرض ضريبة على مبيعات السلاح في العالم تخصّص لمكافحة الفقر الذي عرضه على الأمم المتحدة في حينه.

لولا أكثر سياسي برازيلي، ربما أكثر سياسيي العالم، حظي بإعجاب النساء وحبهم. ونساء البرازيل يعتبرنه نصيرهن والمطالب بإنصافهن. وبلغت مشاركتهن في الانتخابات أخيرا 51% من أصوات من يحقّ لهن الانتخاب، وهي أعلى نسبة تصويت من النساء في أية انتخابات رئاسية، ومن أكثر ناشطي حملته الانتخابية كانت امرأة، المغنية الشعبية والناشطة في حركة السود، مارغريت مينيزس، التي غنّت في أكثر من محفل انتخابي أغنيتها "عندما تمر بجانبي أشمّ رائحة عطرك، أقاتل مطارديك، معجبة بك طول الوقت، أكاد أفقد عقلي وأنا أتبع خطواتك أينما ذهبت".

لولا أكثر سياسي برازيلي، ربما أكثر سياسيي العالم، حظي بإعجاب النساء وحبهم. ونساء البرازيل يعتبرنه نصيرهن والمطالب بإنصافهن

مارغريت مينيزس (يسمّونها ماغا) كانت أطلقت الأغنية قبل أكثر من عقدين، وحينها أخذت الأغنية مساحةً من الشهرة ما لم تأخذه أغنية برازيلية أخرى، وتحوّلت إلى شعار لكرنفالات الفرح التي اعتادت المدن البرازيلية إقامتها كل عام، وجعلت من مينيزيس إحدى أيقونات الموسيقى الشعبية في القارّة اللاتينية.

ردّ الرئيس لولا دا سيلفا جميل نساء البرازيل عليه، إذ أسند لهن 11 حقيبة وزارية، في خطوةٍ لم يسبق أن اعتمدها رئيس سابق، ومن بين من اختارهن مينيزس نفسها، إذ أسند إليها حقيبة وزارة الثقافة باعتبارها، كما قال، "قادرة على أن تصنع وزارة ثقافة قوية، تستجيب لرغبات الناس"، وخصّص لها ميزانية ضخمة، تصل إلى ما يقرب من ملياري دولار. وتعهّدت مينيزس، من جانبها، بالعمل على إعادة بناء الثقافة البرازيلية، وتعزيز العمليات الإبداعية وتقوية الذاكرة الجماعية والتنوع الثقافي والاهتمام بالتراث الشعبي.

ويُنظر إلى هذا الاهتمام الاستثنائي من لولا الذي لم يكن قد نال في حياته قسطا من التعليم في معالجة حقيقية لواحدة من الندوب العميقة التي تركها الرئيس الذي انتهت ولايته، جايير بولسونارو، وراءه في إلغائه وزارة الثقافة، وتحويلها إلى مكتبٍ صغيرٍ ملحق بوزارة السياحة وتقليص ميزانيتها إلى أقصى حد، وكان بولسونارو اليميني المحافظ القادم من المؤسّسة العسكرية يجاهر دائما باعتقاده أن الوزارة ليست لها ضرورة.

يبقى أن لولا دا سيلفا مقبلٌ على "ولاية شاقة" بحسب وصفها له، حيث أمامه تحدّياتٌ لن تكون مواجهتها أمرا سهلا، وأبرزها تنفيذ برامجه في مكافحة الجوع، بحيث "يمكن لكل فرد أن يحصل على ثلاث وجبات طعام في اليوم من دون عناء"، مع ملاحظة أن عدد من هم تحت خط الفقر وصل، في عهد سلفه، إلى ما يقرُب من ثلث السكان، في وقتٍ تعاني البرازيل من نقص الموارد، وثمّة شكٌّ في حصوله على دعم قطاعاتٍ واسعة في الدولة، بخاصة العسكريين الكبار ذوي النزعة اليمينية المحافطة، والذين لا يؤتمن جانبهم، كما أن سيطرة اليمين على غالبية مقاعد البرلمان سوف تشكّل عقبة أمامه.

ويظلّ الأمل معقودا على شعبيته في أوساط الشرائح الفقيرة، وقدرته على تجاوز ما يعترض طريقه من عقبات، وهو الذي قرّر أن يجعل شعب بلاده من أسعد شعوب العالم.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"