عن غياب الإرادة السياسية الفلسطينية الجامعة

05 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

يتطلب الإدراك المعمق والنقدي للأبعاد المختلفة لحرب الإبادة الجماعية على غزّة من إسرائيل وحلفائها وقتاً طويلاً، فمن طبيعة هذه الكارثة ذات الأبعاد التاريخية أنها تشمل تغييراً جذرياً لكل ما هو فلسطيني، وطرائق إدراكه وتفسيره والعمل فيه ومن خلاله، بحيث أصبح النظام الاجتماعي السياسي القائم نافد المفعول. وعليه، أي "لغة" قائمة الآن، بما فيها لغة هذا المقال، لا تستطيع حمل هذا الحدث المفصلي الذي بدأ بتغيير مسار تاريخ فلسطين والعالم العربي، كما جوانب مهمة إقليمية وعالمية. لكن على هذا الإدراك المُؤجَّل، على أهميته، ألا يمنعنا من رؤية قضيتين مفصليتيْن، ضرورة وقف الإبادة الجماعية في غزّة، وضرورة توليد إرادة سياسية وطنية فلسطينية جامعة، والعلاقة المركّبة بينهما، فمن أشد لحظات الألم، الجماعي والفردي، في هذه المعركة مع النظام الاستعماري الاستيطاني في فلسطين هو الوعي الحادّ باليُتم الجماعي الفلسطيني، فعلاً ومجازاً، في ظل حرب الإبادة الجماعية على غزّة، فأمام هول المقتلة، يتعرّى بحدّةٍ تُعمي البصر الحضيض السياسي الجمعي الفلسطيني في أوساط فئات المجتمع الفلسطيني على أماكن وجوده المختلفة (48 والضفّة الغربية والمخيّمات في العالم العربي، والشتات). فعدا عن الفئة المقاومة في قطاع غزّة، والتي حملت الشعلة منذ عقدين ونيّف، لا نلاحظ أي فعل سياسي جمعي فلسطيني شامل يعبّر عن الكيانية السياسية الفلسطينية، أي يحوّلها من وجودٍ بذاته إلى فاعلٍ تاريخيٍّ يحدّد مساراته ومصائره. لذلك، علينا الإقرار، نحن الفلسطينيين، بأن من أهم أسباب السهولة التي لا تُحتمل في تنفيذ الإبادة الجماعية في غزّة، أقله من الجانب الفلسطيني، هو هذا اليُتم الجماعي، أي غياب الإرادة السياسية الجامعة التي من مسؤوليتها المباشرة قيادة المجتمع الفلسطيني وتمثيل وحدة إرادته في مواجهة النظام الاستعماري الاستيطاني ومخطّطاته الإجرامية.

ليس تشظّي الإرادة السياسية الفلسطينية الجامعة وليد هذه اللحظة، فتعبيراته الأوضح بدت جلية منذ نهاية الانتفاضة الأولى وما تلاها من اتفاقيات مع الكيان الصهيوني. منذ ذلك الحين، ساهمت أحداثٌ شتّى في تعميق هذا التشظّي وتكريسه، بحيث أصبحت لدينا "كيانات" سياسية متعدّدة، لا يوجد بينها خيط سياسي ناظم جامع، بل تراوحت ما بين صراع على السلطة في الأراضي المحتلة عام 1967، وغياب شبه تام للعمل السياسي في مخيمات اللجوء، وتكريس شبه تام للعمل الجمعي بإطار النظام الاستعماري في الأراضي المحتلة عام 1948. بالطبع، كانت هناك مبادرات محلية لافتة للنظر في هذه المواقع المتعدّدة، إلا أنها لم ترتق لتشمل الكلّ الفلسطيني على تنوّعه واختلاف تجاربه وتناقضاته. ومن الممكن الإشارة إلى أسباب موضوعية في "فشل" هذه المبادرات ذات الطابع المحلي غالباً. هكذا وصلنا إلى لحظة المواجهة الحالية الفاصلة، وهي، إلى حد بعيد، حتمية، بسبب بنية الصراع مع النظام الصهيوني الاستعماري الاستيطاني وتاريخه، ونحن مفتّتي الإرادة السياسية الجامعة.

هنالك شرطان ضروريان لتحقق الإرادة السياسية الجامعة في سياق الجماعات الوطنية التي تسعى إلى التحرّر بهدف تحديد مساراتها ومصائرها، بنية تحتية مؤسّساتية هي بمثابة جهاز ينفّذ عملياً الإرادة السياسة الجامعة، ومخيال جمعي يحدّد ملامح الجماعة الوطنية المبتغاة والتي تعمل الإرادة السياسية على تحقيقها من خلال المؤسّسات الجامعة. في السياق الفلسطيني الراهن، هذان الشرطان في حالة نكوص مستمرّة، بحيث أصبح تاريخ محاولات بنائهما ذاته عائقاً لأي مبادرة جدّية لإعادة بناء الإرادة السياسية الجامعة. لذلك لا بد من التفكير النقدي بهذا الإرث للنهوض من جديد مؤسّساتيا، والعمل على بناء مخيال سياسي جمعي يتجاوز التصنيفات الاستعمارية الحالية. الحقيقة "المذهلة" أننا، نحن الفلسطينيين، وبعد ما يقارب قرن ونصف القرن من الصراع مع المستعمِر، لا نملك بنية تحتية مؤسّساتية جامعة متفق عليها. فمنذ نكبة عام 1948، التجربة الوحيدة التي سعت، على الأقل بمستوى الإعلان، إلى بناء مؤسّسات جامعة هي منظّمة التحرير الفلسطينية. وعلى الرغم من أن المنظّمة رفعت شعار "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، وحاولت تطبيقه ممارسة، إلا أنها مؤسّساتيا لم تستطع أن تصهر الإرادة السياسية الجامعة للكل الفلسطيني، بل بقيت بمستوى محاصصات تنظيمية وإرادات فردية ترتدّ إلى بنى أبوية متعمّقة بالوعي الجمعي لما هو مجال سياسي (ناهيك عن، أقله، الارتباك السياسي بالتعامل مع فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948، وعدم المبادرة إلى دمجهم في المنظّمة، بالمستويين، المؤسّساتي والجماهيري، وغيرها من القضايا التي بقيت مُعلقة).

ليس تشظّي الإرادة السياسية الفلسطينية الجامعة وليد هذه اللحظة، فتعبيراته الأوضح بدت جلية منذ نهاية الانتفاضة الأولى وما تلاها من اتفاقيات مع الكيان الصهيوني

في ضوء هذه التجربة، وغياب تجارب مؤسّساتية جامعة أخرى، من المهم توضيح بعض من ملامح المؤسّسة التمثيلية الجامعة، بما هي آلية لتنفيذ الإرادة السياسية للجماعة الوطنية الفلسطينية. بداية، بينما تُبنى التنظيمات والأحزاب على أسس سياسية وفكرية وإيديولوجية عينية تحدّد الهيكلية المؤسّساتية خاصتها، فإن على المؤسّسة التمثيلية الجامعة أن تعمل بأفق وطني عام، أي وفق مبدأ التمثيل بالانتخاب الدوري، يحقّ لكل فلسطيني/ة المشاركة فيه. من جانب آخر، يتطلّب العمل المؤسّساتي التمثيلي روافد تقنية وإدارية وقانونية وخبرات في مجالات شتى، وهذا ما يتطلب هيكلية إدارية تعتمد على مبدأ المهنية وإتقان أدائها. فالبنية المؤسساتية الجامعة عليها أن تعمل عبر هيئة تمثيلية منتخبة وهيئات فرعية تابعة لها، و/أو مشتقّة منها، تعمل على أساس تخصّصات مهنية. في هذا السياق، من الضرورة بمكان التطرّق إلى مسألة الإتقان في العمل السياسي التمثيلي، وكذلك العمل المهني الاختصاصي المرتبط به، وتاريخه في المجتمع الفلسطيني وفئاته السياسية المختلفة.

عموماً، لم يتميّز الأداء السياسي للنخب الفلسطينية بالإتقان، بغض النظر عن التوجّهات السياسية والإيديولوجية للسياسيين أنفسهم، وذلك بخلاف إتقان المقاومة المباشرة للنظام الصهيوني من مجموعات منظمّة، عادة ما تكون قليلة العدد. وإذ لسنا هنا بصدد تحليل خلفيات عدم الإتقان هذا وأسبابه، نودّ التشديد على أهمية ضبط الإتقان عبر الانتخابات الدورية، وآليات مؤسّساتية للمحاسبة وتحمل مسؤولية تبعات عدم الإتقان بالأداءين السياسي والمهني. في هذا السياق من تبيان ضرورة بناء المؤسّسات التمثيلية كجهاز لتحقيق الإرادة السياسية الجامعة، يُطرح السؤال حول كيفية التعامل مع الإرث المؤسّساتي لمنظمّة التحرير والمجلس الوطني الفلسطيني. هل علينا إعادة إحياء هذه المؤسّسات وإرثها؟ أم تشكيل مؤسّسات جديدة تنبثق من معطيات اللحظة الراهنة؟ أم خليط من هذا وذاك؟ من منظور تاريخي، المنظمّة والمجلس وطرق عملهما المؤسّساتية تعكس حقبة سابقة من التاريخ الفلسطيني ونضاله للتحرّر. تتطلب تطورات الواقع الاستعماري وتناقضاته في سياق الرأسمالية المتأخّرة عملاً مؤسّساتياً جديداً ومحدّداً بهدف تحقيق الاستراتيجية الوطنية الأساس، الإرادة السياسية الجامعة في المسعى إلى التحرر وبناء كيان سياسي مستقل. هذا العمل المؤسساتي الجديد والمحدّد مبني على ثلاثة أضلاع لم تكن متوفرة سابقاً: التمثيل الانتخابي الدوري، وإتقان الأداء السياسي والمهني المؤسّساتي، وتركيم الإنجازات النضالية والسياسية وتحويلها إلى مصادر مؤسساتية في تعاقب الأجيال الفلسطينية. من هذا المنظور، يجب البدء من حيث انتهى المجلس الوطني والمنظمّة، متخذين من تجربتهما، كطريقة في تحقيق الإرادة السياسية الجامعة، نقطة انطلاق يُبنى على فكرتها الأساسية دون هيكليتها المؤسّساتية التي لا تجيب على متطلبات المرحلة الراهنة من تاريخ السعي للتحرر من النظام الاستعماري.

لم يتميّز الأداء السياسي للنخب الفلسطينية بالإتقان، بغض النظر عن التوجّهات السياسية والإيديولوجية للسياسيين أنفسهم

الشرط الضروري الثاني لتحقّق الإرادة السياسية الجامعة في سياق التحرر الوطني، هو بناء مخيال جمعي يحدد، وإن بشكل عام، طبيعة الجماعة الوطنية ونظامها المُبتغيين. في السياق الفلسطيني الراهن، نرى أنه من أهم تجليات التشظّي في الإرادة السياسية الجامعة هو التحوّل في المخيال الجمعي الفلسطيني، أي كيف يفكّر الفلسطينيون بأنفسهم بوصفهم جماعة وطنية ومن ثم نوع الرابطة الوجدانية الشعورية والرمزية بينهم. هذا المخيال الجمعي ارتد إلى محلاتية ناتجة عن التصنيفات الاستعمارية والبنى الاجتماعية الأبوية، بعد أن كانت هنالك محاولات جادّة في بنائه تجاوزاً لها. هكذا، مثلاً، يتعاطف اليوم الفلسطيني مع فلسطيني آخر "عن بعد"، أي من خلال عدسة التصنيفات الاستعمارية ذاتها. فنحن الفلسطينيون خارج غزة، بسبب هذا التحول، نشاهد الإبادة الجماعية "عن بعد"، نتألم، نحزن، نتلوّى، نصرخ، نوقع عرائض، نبادر إلى مظاهرات ونشارك بأخرى، ولكن "عن بعد". أدى تكريس هذه "المحلاتية" الاستعمارية إلى "عدم" القدرة لدى النخب الفلسطينية والفاعلين بالشأن العام على تخيّل، أو حتى محاولة التخيل، لوضع مستقبلي يتجاوز الورطة الاستعمارية الاستيطانية التي يعيشون من خلالها. هذا الضمور في القدرة على التخيّل السياسي التجاوزي في أوساط السياسيين الفلسطينيين ليس بجديد بحد ذاته، الجديد هو الارتباط المباشر العلني لهؤلاء السياسيين بأجندات النظام الاستعماري ذاتها، مثل نخب محددة في السلطة الفلسطينية وبعض السياسيين في المناطق المحتلة عام 1948، و/أو بأجندات دول عربية وإقليمية أخرى. هذه الحالة هي النقيض التام للإرادة السياسية الفلسطينية الجامعة التي تسعى إلى تحقيق استراتيجية وطنية موحّدة في الطريق إلى التحرّر من النظام الاستعماري وبناء كيانية سياسية فلسطينية مستقلة.

أدّى تقاطع غياب البنية المؤسّساتية على أساس تمثيلي مع ضمور القدرة على التخيّل السياسي التجاوزي لدى النخب إلى تكرار مميت لأحد أهم جوانب التراجيديا الفلسطينية: عدم تحويل إنجازات المقاومة وتضحياتها إلى إنجازات سياسية تصبّ في مسعى التحرير وبناء الكيانية الفلسطينية الجامعة. فعلى الأقل، منذ نهاية الانتفاضة الأولى، نلاحظ أنه بمدى نجاح المقاومة، على أنواعها ونوعياتها، من قبل الفلسطينيين في معاشهم اليومي كما من قبل حركات وتنظيمات مختلفة، بمدى "فشل" السياسيين في ترجمتها إلى إنجازات سياسية ذات قيمة، ناهيك عن تركيمها، في تقويض النظام الاستعماري والتحرّر منه. مرعب هو سيناريو تكرار ذلك في حرب الإبادة الجماعية على غزة: أن تذهب هذه الضحايا والتضحيات والمقاومة سدى لعدم قدرة النخب السياسية الفلسطينية على تحمل مسؤوليتها التاريخية. مرعب جدا، ولكنه وارد. من المهم التشديد هنا أننا لسنا أمام سياق حتمي، وإنما تاريخي، بمعنى صنعه فاعلون محددون، ويستطيع تغييره فاعلون محددون آخرون.

أمام هول المقتلة، يتعرّى بحدّةٍ تُعمي البصر الحضيض السياسي الجمعي الفلسطيني في أوساط فئات المجتمع الفلسطيني بمختلف أماكن وجوده

شكل النظام الجماعي الحديث، وطنياً كان أم قومياً أم أمة، هو ظاهرة تاريخية، تنبني من خلال عمليات اجتماعية اقتصادية وسياسية وثقافية، والتي تأخذ، في الغالب، شكلاً مؤسّساتياً. من هنا، يتغيّر هذا الشكل وفقاً لعوامل عدّة، ضمن هذه العمليات ومساراتها، وتتغيّر تبعاً لذلك الإرادة السياسية الجامعة المعبّرة عنه، ومؤسّساته، كما مخياله الجمعي. ففي السياق الفلسطيني، تغيّر شكل النظام الجماعي والإرادة السياسية المعبّرة عنه، ومؤسّساته، والمخيال الجمعي خاصته، عدّة مرات منذ بداية استعمار فلسطين التاريخية. فمثلاً، مر ما يقارب عقدين بعد نكبة 1948، لإعادة تشكيل الجماعة الفلسطينية نظاماً له إرادة سياسية تجلت بمنظّمة التحرير ومؤسّساتها ومخيال وطني جمعي واضح المعالم إلى حد ما. ثم ظهرت الحركات الإسلامية الفلسطينية، بهيئتها الأحدث في حينه، في أواسط العقد الثامن من القرن العشرين، وطرحت شكلاً جديداً من النظام الجماعي، يمزج ما بين الوطني والأمة، وإرادة سياسية ذات مكوّنات جديدة، مؤسّساتية وأخرى، ومخيال جمعي يحتوي الوطني ويوسعه باتجاه الأمة الإسلامية. لذلك من الضرورة بمكان تأطير عمليات إعادة بناء الإرادة السياسية الجامعة، ومؤسّساتها، والمخيال الجمعي ضمن ما يَضبط حركة التاريخ في فلسطين في ظل النظام الاستعماري الاستيطاني. ما يضبط هذه الحركة جدلية الحياة/ الموت ما بين المستعمِر والمستعمَر، وحرب الإبادة الجماعية على غزّة تجلٍ عياني لهذا القانون. فمن جانب المستعمِر ونظامه، هنالك السعي الدائم لنفي/ قتل الجماعة الفلسطينية تاريخياً، ورمزياً، ومادّياً؛ ومن جانب المستعمَر، لكي يعيش، هنالك السعي الدائم إلى إعادة دخول التاريخ من خلال بناء جماعة فلسطينية ذات إرادة سياسية جماعية فاعلة. حركة البندول بين هذين القطبين والمحطّات بينهما حددت معالم التاريخ الفلسطيني، أقله منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. لا يتسع المجال هنا للخوض في متى وكيف يكون النفي/ القتل من المستعمِر للمستعمَر تاريخياً، أم رمزياً، أم مادّياً، أم خليطاً من هذا وذاك. لكن المؤكّد، بحسب هذا القانون الضابط لحركة التاريخ في فلسطين، ضرورة بناء إرادة سياسية جامعة، تعتمد على بنية مؤسّساتية لتحقيقها، تعبيراً عن الجماعة الفلسطينية، لكي تستطيع أن تعيش كجماعة في سعيها إلى التحرّر، ولكي تتحرّر. وما يؤكّد هذه الضرورة أن ما جرى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023) من خلخلة عميقة لأركان النظام الاستعماري الاستيطاني هو، تحديداً، بسبب محاولة ممارسة الإرادة السياسية الجماعية في فلسطين لحسم حركة البندول بين الحياة والموت، أقله في قطاع غزّة الذي كان يقع تحت عملية قتل "بطيئة" ممنهجة منذ عقدين، تُسمَّى "حصاراً".

كما في محطّات سابقة من التاريخ الفلسطيني الحديث، تشكّل حرب الإبادة الجماعية على غزّة لحظة تحوّل مفصلية وشمولية توازي نكبة عام 1948. ضرورة إيقاف الإبادة الجماعية يجب أن تكون الأولوية العليا للجماعة الفلسطينية كلها، لكن إيقافها لن يجري إلا من خلال إرادة سياسية فلسطينية جامعة تقف على أرضية مؤسّساتية لتنفيذ الاستراتيجية السياسية الوطنية الموحّدة، أي سعي الجماعة الفلسطينية المنظّم إلى التحرّر وتحقيق الحرية وبناء كيانية سياسية فلسطينية جامعة. لكن بعكس المحطات السابقة في هذا التاريخ، هذه الإبادة الجماعية شمولية، أولاً، وتجري أمامنا ببثٍّ مباشر، ثانياً، ما يجعلها موثّقة في لحظة حدوثها، ثالثاً. هذا مما لا يسمح لنا كجماعة فلسطينية بأي نوع من الإزاحة و/ أو التأجيل في تحمّل مسؤولية مساراتنا ومصائرنا نحن الفلسطينيين، جماعات كنّا أم أفراداً. إنها لحظة حقّ وحقيقة في الوقوف أمام الموت الشامل، لمعالجة الورطة الاستعمارية الاستيطانية بشموليّتها، أي ببناء حياة شاملة للجماعة الفلسطينية على أساسٍ من التحرّر والحرية. هنا تكمن حالة الطوارئ التي نعيشها، والتي تتطلّب المبادرة إلى بناء الإرادة السياسية الجامعة من خلال مؤسّسات تمثيلية ومخيال فلسطيني جمعي يجمع وجودياً وشعورياً ورمزياً الكل الفلسطيني من جديد، ويعمل من خلال استراتيجية وطنية موحّدة في سعيه إلى التحرّر وبناء كيان سياسي مستقل.

أكاديمي فلسطيني في علم الاجتماع، معهد الدوحة للدراسات العليا.
إسماعيل ناشف
أكاديمي فلسطيني، أستاذ مشارك في برنامج علم الاجتماع وعلم الإنسان في معهد الدوحة للدراسات العليا، عمل في عدة جامعات عربية وأجنبية، وصدرت له عدّة كتب. ناقد أدبي وفني وقيّم معارض، وله عدة نصوص أدبية.