عن علاقة بين علم فلسطيني وملفّ الذاكرة الجزائرية

03 يونيو 2024

علما فلسطين والجزائر في مخيم لا جانغل في كاليه بفرنسا (7/12/ 2015 Getty)

+ الخط -

 

ربّما كان المطروح في العنوان عجيباً نوعاً ما، لكن، عندما نمعن في خلفية الصورة، سيميائياً، ثمّ نحاول البحث في سياق التّحامل الفرنسي، على جبهتَين؛ الفلسطينية وبشأن المطالب الجزائرية في ملف الذّاكرة، نصل إلى المسلّمة التّي طالما كانت سياقَ السياسات الفرنسية في كلّ ما يتّصل بالعالم العربي – الإسلامي، وبالملفَّين الفلسطيني والجزائري، على وجه الخصوص.
في المستوى السيميائي، تزامن رفع العلم الفلسطيني في الجمعية الفرنسية من نائب في حزب فرنسا الأبيّة، وما تلاه من رفع الجلسة، واجتماع مجلس الجمعية بصفة استعجالية، وإيقاع العقوبات النّظامية على النّائب، مع نشر الحزب اليميني؛ الحزب الجمهوري، محتوىً لأحد قيادييه يرفض فيه مطالب الطرف الجزائري، بمناسبة اجتماع اللجنة المشتركة لتصالح الذاكرة، إذ رأينا في كلا الحدثَين، والمعالجة الإعلامية لهما، ذلك الصّخب، وتلك العنجهية الفرنسيّة، وذلك الاستخدام لرموز التّاريخ، ومنها التّعالي والخطاب العدائي، وثنائية المزاج في التّعامل مع القضايا ذات البعد الإنساني، وذات الخلفية القانونية التي، في الأساس، لا يمكن أن يختلف فيها الناس مهما كانت معتقداتهم أو خلفياتهم الفكرية. حتّى يتّضح الأمر، سيميائياً، وتتّضح الصُّورة أكثر، يمكن الإشارة، أيضاً، إلى التّناول، في القنوات الإخبارية، للحدثَين بمرجعية الخطاب والصور، التي عكستها وسائل الإعلام، تلك، حيث نال رفع العلم الفلسطيني حظّه من الانتقاد من قبل أصوات اعتبرت ذلك خروجاً عن الإجماع الفرنسي، في اعتبار أنّ الرّد الصهيوني على هجمات 7 أكتوبر (2023) لا يمكن أن يكون إلّا نوعاً من الحفاظ على توازن قوى في تعامل دولة مع حركة مُصنّفة إرهابية، وأنّ العدد المهول من الضحايا مشكوكٌ فيه، لأنّ المرجعية هي وزارة الصحّة في غزّة، التّي ترأسها حركة حماس.

رأينا في كلا الحدثَين تلك العنجهية الفرنسيّة والاستخدام لرموز التّاريخ، ومنها التّعالي والخطاب العدائي، وثنائية المزاج تجاه القضايا ذات البعد الإنساني

توازى تناول حدث رفع العلم الفلسطيني في الجمعية الفرنسية مع انتهاء اجتماع اللجنة المشتركة الجزائرية الفرنسية لتصالح الذّاكرة، وبمُجرّد وصول الخبر بمطالب الجزائر في تلك اللجنة لإبراز حسن النّيّة لدى الجانب الفرنسي (طلبات باسترجاع متعلقات شخصية خاصة بكل من الأمير عبد القادر الجزائري وبأحمد باي، ومدفع جزائري كبير) كان للجانب الفرنسي، إعلاميين وسياسيين، خصوصاً من اليمينيين، ردّات فعل باستحالة القبول بتلك المطالب، والاستمرار في اجترار خطاب استعماري استيطاني يحمل المضامين نفسها المُنتشرة منذ 7 أكتوبر، انحياز كلّه، ورفض لكلّ انتقاد للمواقف الغربية ما يمكن أن يذكّر العقل الغربي بالمجازر، وبالمحارق، أو بالاستعمار والاستيطان. في النتيجة، تلك المواقف الفرنسية، والغربية عموماً، هي مواقف أو إجراءات وقائية ضدّ تبعات المساندة للجرائم الصُّهيونية، وتبعات إعادة إحياء المتابعات القضائية ضدّ الجرائم الاستعمارية والمجازر، بسبب ما جرى في المحكمة الجنائية الدّولية أو محكمة العدل الدّولية، رغم تحفُّظات على ما جاء في قرارات تلك المؤسّسات الحقوقية الدّولية، ولا يرقى إلى مطالب بالمساءلة/ المحاسبة، والمنع من الإفلات من العقاب، بالنّسبة إلى الغرب المساند للصهيونية، بشأن الجرائم والمجازر المُقترفة في حقّ العزّل من الفلسطينيين.
بدأ اتّجاه فرنسي في البروز، على الأقلّ إعلامياً، يُحذّر من تبعات ما يحدُث على مستوى تلك المؤسّسات القانونية الدّولية من إعادة تعريف مفاهيم المجازر والمساندة والدّعم، ما يمكنه من التّأثير في المحادثات التي تجري في إطار اللّجنة المشتركة الجزائرية الفرنسية لتصالح الذّاكرة، وبخاصّة أنّ فرنسا ترى ذلك النّشاط الدّؤوب لمُمثّل الجزائر في الأمم المتّحدة، ومجلس الأمن (الجزائر عضو غير دائم الآن)، وهي تحرُّكات يُخشى أن تنعكس في أعمال اللجنة المشتركة، لأنّ مطالب الجزائر بثُلاثية؛ الاعتراف والاعتذار والتّعويض، قد تتأسّس، مرّة أخرى، بمرجعية المساندة الجزائرية لكلّ التّغيّر الذي يجري بشأن إعادة تعريف مفاهيم المجازر، والجرائم ضدّ الإنسانية، والتّعويضات، بل حتّى الأمر بالقبض على مجرمين ممّا يُمكن أن ينسحب على مجرمي الحرب الفرنسيين، وإن رمزياً، بسبب أنّ من هؤلاء من قضى منذ أكثر من قرن، بالنّسبة إلى مجرمي القرن التّاسع عشر أو ممّن شاركوا في جرائم الثامن من مايو/ أيار 1945 (جريمة استيطانية فرنسية قضى فيها زهاء خمسين ألف جزائري في أعقاب إعلان انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحدثت في مدن في الشّرق الجزائري)، وصولاً إلى مجرمي الحرب ممن حضر حرب التحرير الجزائرية (1954 - 1962)، سياسيين وعسكريين، على وجه الخصوص.
تخاف فرنسا من تبعاتٍ في مستويَين: مستوى تلك اللجنة المشتركة الجزائرية الفرنسية لتصالح الذاكرة، والمؤسّسات الحقوقية الدّولية، التي يمكن أن تؤسَّس بمرجعية مطالبات تحقيق دولية، لطلب القبض على مسؤولين سياسيين أو عسكريين كانت لهم اليد الطولى في المساندة، وشحن الأسلحة، والدعم المالي والإعلامي والسياسي، في المؤسّسات الدّولية، مع الجيش الصهيوني، وبخاصّة أنّ التّعنُّت الإجرامي يزداد، يوماً بعد يوم، ويطاول كلّ شيء؛ الإنسان والبنى التّحتية والطبيعة. عبّر بعض الإعلاميين عن خوفهم من تلك المساندة خشية أن يستخدمها الجزائريون في ملفّ تصالح الذّاكرة، لأنّها اعتراف فرنسي باستسهال اقتراف الجرائم، و بخاصّة أنّ العدالة الدّولية أخذت، أخيراً، على عاتقها إرادة تغيير الموقف على الأرض، ومن تبعات ذلك إبراز معاني جديدة لمفاهيم لا تريد فرنسا حتّى مُجرّد النُّطق بها، لها علاقة بالجرائم، والمجازر، والاستيطان، ووجوب الخضوع لمبادئ القانون الدولي، ما سيستخدمه الجزائريون، حتماً، في اللّجنة التاريخية المشتركة، وهو ما قد يغيّر موازين القوى في التّفاوض داخل تلك اللجنة، ويخضع الجانب الفرنسي للمطالب الحقوقية الجزائرية، وإنْ في المستوى الرمزي.
ما زال ملفّ الذاكرة يراوح مكانه، وتحاول فرنسا المُماطلة فيه، والابتزاز، بل البناء على أساسه لقضايا أمنية واقتصادية وسياسية/ استراتيجية، وهو ما يدفع الجزائر إلى إعادة حساباتها، وبخاصّة أن تشكيلة اللجنة التاريخية، من الجانب الفرنسي، تضمّ، في صفوفها، مؤرّخاً مثيراً للجدل، بنجامين ستورا، كان قد كتب في تقريره أشياء لا تمتّ بصلة إلى إرادة التصالح، على غرار رفض مطالب الجزائريين بواجب الاعتذار عن الجرائم الاستيطانية، بل إرادته، أخيراً، في أعقاب اجتماع اللجنة في الجزائر (مايو/ أيار 2024) رمي الكرة إلى ملعب الأحزاب السياسية، وكأنّه يومئ إلى إقحام القضية التاريخية في خضمّ الانتخابات الأوروبية المزمع إجراؤها الأسبوع المُقبل، في كامل أوروبا، لتجديد أعضاء البرلمان الأوروبي.

ما زال ملفّ الذاكرة يراوح مكانه، وتحاول فرنسا المُماطلة فيه، والابتزاز، وهو ما يدفع الجزائر إلى إعادة حساباتها

تلك هي الموازاة بين قضية رفع العلم الفلسطيني في الجمعية الوطنية الفرنسية وملفّ الذّاكرة الجزائرية، وهما، في الوقت نفسه، ملفّان متعاضدان، لأنّ ما تعانيه فلسطين كانت الجزائر قد تعرّضت له، ولم يفكّك الاستيطان إلّا بحرب تحريرية، ومن جانب آخر، فإنّ ما تقوم به الجزائر من جهود لمساندة القضية، في مجلس الأمن، خدمة غير مباشرة لملفّ تصالح الذاكرة الشّائك مع باريس، لتكون النتيجة، في نهاية المطاف، هذا الحراك الفرنسي المتشنّج كلّه، ويمثّله بنجامين ستورا في خطاباته ومداخلاته، كما تمثّله الفعّاليات الإعلامية والثقافية المُتّصلة بالملفَّين، الفلسطيني من ناحية، والتاريخي الجزائري من ناحية أخرى.
لا يجب إنهاء المقالة من دون الإشارة إلى واجب مراجعة اللّجنة الجزائرية لتصالح الذّاكرة لمسار لقاءاتها مع الجانب الفرنسي، وواجب استخدام كلّ السّياقات المذكورة، ومنها المُتّصلة بالمفاهيم التي جرت إعادة تعريفها، والتي تقوم الجزائر، بصددها، بعملٍ جبّارٍ في مستوى أكبر مؤسّسة دولية (مجلس الأمن)، وتبعات ذلك في المؤسّسات الحقوقية الدّولية، وانعكاس ذلك كلّه على مستقبل ملفّ تصالح الذاكرة.