عن صحافة احتفالية ... وصحافيين في خبر كان
روى زميل عربي أنه، في إحدى زياراته بغداد، صادف أن انعقد بينه وبين بائع خضار حوار في أمور شتّى، وعندما عرف البائع أن من يحاوره صحافي قال له: "إنني أيضا صحافي مثلك". هنا سأله زميلنا عما ألجأه لبيع الخضار، اعترف البائع بحقيقة أنه انضم إلى نقابة الصحافيين لضمان عيشه، مع أنه لم يمارس العمل الصحافي مطلقا، ولا يقرأ الصحف إلا نادرا، وقد فعل ذلك في الفترة التي أصدرت فيها الحكومة قرارا بتقنين حركة السيارات وفقا لأرقام لوحاتها، بحيث تعمل السيارة التي تنتهي لوحتها برقم فردي في أيام محدّدة، والسيارة التي تنتهي لوحتها برقم مزدوج في أيام أخرى، ما دفع بعض مالكي السيارات إلى الانضمام إلى نقابة الصحافيين، عبر وساطات معيّنة، وبعد دفع المقسوم، لكي يضمنوا الاستمرار في استخدام سياراتهم!
أماط أحد العاملين في إدارة النقابة اللثام في السابق عن مئات الأسماء، قال إنها لفنانين مبتدئين وموسيقيين، وحتى عمّال في قطاعات ليست لها علاقة بالعمل الصحافي انضمّوا إلى النقابة، طمعا في الحصول على مكاسب أو امتيازات توفّرها لهم العضوية.
في البال تصريح لنقيب الصحافيين، مؤيد اللامي، يشير فيه، مفاخرا، إلى أن عدد أعضاء النقابة أزيد من 25 ألفا، وهو قد لا يعلم أن عدد أعضاء نقابة الصحافيين في مصر، أمّ الصحافة العربية، 9259 عضوا فقط، بشهادة النقابة نفسها، وفي لبنان عدد أعضاء نقابة الصحافة نحو ألف، وكذا حال الصحافيين في الأقطار العربية الأخرى.
هذا يعني أن "السلطة الرابعة" في العراق تعاني من معضلة حادّة، حيث إن عدد الصحافيين العاملين في المهنة واقعيا لا يزيد على بضعة آلاف في أكثر تقدير، والباقون بالطبع لا يقرأون ولا يكتبون، ومثلهم مثل "بائع الخضار" في الواقعة التي رواها زميلنا الصحافي العربي.
أي جدوى لوجود "عيد وطني" للصحافة العراقية، وعشرات الصحافيين العراقيين في خبر كان؟
في البال أن اللامي عمل في مستهل حياته العملية ضاربا على آلة الرقّ في فرقة موسيقية قبل أن يعمل مراسلا لمجلة فنية، وينضم لنقابة الصحافيين ليصبح تاليا نقيبا لها. ويقول خبثاء إن بدايات اللامي العملية هي التي دفعته إلى اعتبار العمل الصحافي "مهنة من لا مهنة له"، لكن القدر حمل له "الجائزة الكبرى"، حين التفت إليه نوري المالكي في ولايته الأولى ليرفع اسمه من قائمة "المجتثيّن"، ويؤهّله للعمل النقابي. وفي عام 2012، خصّصت حكومة المالكي لنقابة الصحافيين أربعة مليارات دينار من المال العام، مع أن أية نقابة مهنية أخرى لم تمنح دينارا واحدا. وعبر هذه الصفقة، ضمن اللامي المنصب لخمس دورات انتخابية، مع أن قانون النقابة يمنع إشغال المنصب أكثر من دورتين، حتى أصبح رئيسا لاتحاد الصحافيين العرب من خلال الدعم المالي السّخي الذي قدمته حكومة بغداد.
في البال أيضا ما نقله بعض شهود تجديد ولاية اللامي في اتحاد الصحافيين العرب عام 2022 أن عديدا من صحافيي مصر اعترضوا على التجديد، وطرحوا اسم ضياء رشوان نقيب الصحافيين لقيادة الاتحاد، إلا أن تسوية أقرت في حينه لإرضاء حكومة العراق، أبقت على اللامي رئيسا، فيما استحدث منصب جديد "رئيس فخري للاتحاد" منح لرشوان!
وبعد هذا كله، كان لا بد للنقيب العتيد أن يردّ الجميل لمن أولاه نعمته. ولذلك أنشأ "جيشا إلكترونيا" من قارعي الطبول يروّج طروحات المالكي وآراءه، ويدافع عنه مستغلّا صحفا وفضائيات ومواقع تواصل.
مناسبة هذه التداعيات التي أصبحت في ذمّة التاريخ الإعلان عن "عيد وطني" للصحافة العراقية في 15 يونيو/ حزيران الحالي الذي يصادف الذكرى الـ154 لتأسيس "الزّوراء" أول صحيفة عراقية، على عهد الوالي مدحت باشا، واقتران الإعلان بتصريحات مثيرة للنقيب ينفي فيها وجود صحافي سجين في العراق أكثر من عقد. وبالطبع، كان النقيب صادقا في قوله، فالذين اختطفوا أو اعتقلوا لم يعودوا أحياء، وأغلب الظن أنهم قتلوا وغيّبوا تماما، والحقيقة تتسلل من بين مضامين تقارير جمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق التي وثّقت عشرات الانتهاكات وحالات الاغتيال والتهديد بالقتل والأحكام بالسجن والاعتداء ومصادرة معدّات والمنع من التصوير وحرق مقارّ مؤسّسات صحافية ... إلخ. وفي البال أسماء مازن لطيف وتوفيق التميمي وهشام الهاشمي وأحمد عبد الصمد وصفاء غالي، وعشرات غيرهم ليس ثمّة خبر عنهم، وما تزال أسرهم تبحث عن مصائرهم.
بعد هذا كله، أليس من حقّنا أن نتساءل عن جدوى احتفالية "عيد وطني" للصحافة العراقية، وعشرات الصحافيين العراقيين في خبر كان؟