عن تحوّلات أحزاب اليسار في اليمن
تتماهى حالة السقوط الوطني متعدّد الأوجه في اليمن من كيان الدولة المركزية إلى النخب السياسية مع تموضعات الأحزاب اليمنية وأدوارها السياسية في كلّ مرحلة، باعتبارها عاملاً محورياً في تخليقها، فمن إسناد الصراع الأهلي والاقتتال على السلطة، عسكرياً وسياسياً، إلى الشرعنة لسلطات الحرب ودويلاتها، تمضي الأحزاب في تمثلاتها اللاوطنية. ومع أنّ تحوّل معادلة القوة والتأثير جرّاء الحرب لصالح الكيانات المسلحة وداعميها الإقليميين قد جرّد الأحزاب المدنية من فاعليتها، فإن استمرار خضوعها لشروطها وتقديمها تنازلاتٍ، مقابل تمثيل هامشي في أطر سلطات الأمر الواقع، يعكس انتهازيتها، وعدم تقديرها النتائج بعيدة المدى على الصعيد الوطني. وفي هذا السياق، تتكشّف مآلات تموضعات أحزاب اليسار وتحالفاتها السياسية مع قوى مناقضة لها، بحيث يتجاوز فقدانها هويتها السياسية إلى شرعنتها للتشظّي الوطني، وذلك بتحوّلها إلى قوةٍ تسند مشاريع تفتيت البلاد المحتربة.
تتقاطع التموضعات السياسية الحالية لأحزاب اليسار مع مآلات تجريفها التاريخي، إذ إنّ انتقالها من تصدّر المشروع الوطني إلى قوى إسنادٍ لمشاريع التفتيت، ارتبط بتشظّي كياناتها وهيئاتها الحزبية، وهو ما مكّن السلطات سابقاً، والقوى التي تتشارك نطاقاتها الجغرافية حالياً من تجيير قرارها السياسي لصالحها، أفضى ذلك أيضاً إلى انكشافها، بحيث عرّض قاعدتها الحزبية للاستقطابات وتحوّل نخبها الشابة غير المستوعبة في أطرها إلى منظّرين لقوى الحرب، إلى جانب تآكل البناء المؤسسي لأحزاب اليسار وتعطيل هيئاتها، والذي انعكس على عملية صنع القرار الحزبي الذي حُصر بقيادات الصف الأول، فضلاً عن السمة التقليدية التي تميّز الأحزاب اليسارية عموماً، وهو تأثير منصب الأمين العام على سياسته العامة، بحيث أنتج، في المحصلة، سياسة مرتبكة لأحزاب اليسار، بشقّيها القومي والاشتراكي، عكس حالة انجرار عاطفي أكثر من كونه سياسيا، وإنْ لدوافع مختلفة، مقابل تجاهل نتائجه المستقبلية، ففي حين تبنّت أحزاب اليسار خيار دعم السلطة الشرعية، بحيث مثلت سياسياً في أجهزتها المختلفة، وإن كان هامشيا مقارنةً بحزب التجمّع اليمني للإصلاح، فإنها تجاهلت مسؤوليتها في اختلالات السلطة الشرعية وفسادها، بحيث شرعنت سلطة المجلس الرئاسي تحت غطاء تصحيح اختلات شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، مقابل تجاهلها اختلالات سلطة المجلس الرئاسي، وغلبة قوى على حساب القوى الأخرى، على الرغم من استثنائها من التمثيل في سلطة المجلس الرئاسي، واقتصار مشاركتها في أطر الحكومة المعترف بها وأجهزتها باستيعاب بعض قياداتها والمحسوبين عليها، إلى أن تمضي في خيار دعم قوى محلية مسلحة، الذي وإن كان خياراً بهدف تنمية حلفاء لدعم مركزها السياسي، فإن معطيات الواقع تؤكد تحوّل هذه القوى إلى قوى رديفة لا أكثر، ما يجعل من تموضعاتها عبئاً على كياناتها التي قد تفقد استقلاليتها لصالح هذه القوى.
تبنّى التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري سياسياً على الأقل المقاربة السعودية - الإماراتية في إدارة أزمة الشرعية، وذلك بإيجاد سلطة سياسية بديلة للرئيس هادي
لأسباب سياسية، برز التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري في تبنّي إصلاح اختلالات السلطة الشرعية في السنوات السابقة، إذ قدّم مبادرات عديدة لإصلاح منظومة الشرعية، وإن لم تحقق غاياتها، إلى جانب تأسيس تحالفاتٍ سياسية لدعم الشرعية وإسنادها، على أنقاض "تكتّل اللقاء المشترك"، تحالف أحزاب المعارضة ما قبل ثورة الربيع اليمني وإبّان المرحلة الانتقالية، في محاولةٍ منه لتوحيد القوى السياسية، وأيضاً تصدّر المشهد ضدّ حزب التجمع اليمني للإصلاح الذي صادر "اللقاء المشترك"، ومع تصاعد حدّة التنافس بين قواعد الحزبين، ونجاح "الإصلاح" في إدارة المعركة لصالحه، بما في ذلك تكريس سلطته في مؤسّسات السلطة الشرعية، فإنّ التنظيم تبنّى سياسياً على الأقل المقاربة السعودية - الإماراتية في إدارة أزمة الشرعية، وذلك بإيجاد سلطة سياسية بديلة للرئيس هادي، تقيد حزب الإصلاح في بنية السلطة الجديدة، وتشرك القوى المنافسة له، فمن الأحزاب اليسارية المشاركة في مشاورات الرياض 2، مثّل التنظيم في اللجنة السياسية التي شرعنت سلطة المجلس الرئاسي، بما في ذلك حزب التجمع الوحدوي اليمني، مقابل تغييب الحزب الإشتراكي اليمني. ومن جهة ثانية، أدار التنظيم عملية تشبيك سياسي مع خصوم "الإصلاح"، وإن لم يرقَ بعد إلى مستوى التحالفات السياسية، سواءً بتقاربه مع حزب المؤتمر الشعبي العام، جناح العميد طارق محمد عبدالله صالح، أو المجلس الانتقالي الجنوبي، إلى جانب دفع قواعده إلى التنسيق مع قواعد "المؤتمر" في مدينة تعز ومدينة المخا، إلا أن المفارقة في موقف التنظيم لا تقتصر على شرعنته سلطةً تنضوي فيها قوى تناقض مرجعياته الوطنية، بل تضحيته بمبدأ الشراكة والإصلاح السياسي لمنظومة السلطة لغايات سياسية، إذ تتجاوز نتائج أحداث شبوة التي حسمت المعركة لصالح "الانتقالي" في أغسطس/ آب الماضي، والتي أيّدها التنظيم، إزاحة "الإصلاح" إلى تكريس اختلالات بنيوية في سلطة المجلس الرئاسي، بما في ذلك المعادلة السياسية على الأرض والتوازنات العسكرية، إلى الإخلال بقواعد الشراكة السياسية وتعميق انقسام أجهزة الدولة وتعطيلها. ومن ثم تخلّى التنظيم عن سياسة إصلاح السلطة وأجهزة الدولة، المبرّر الذي استخدم لإزاحة الرئيس هادي، مقابل المضي بخيار استراتيجي، وإن كان غير آمن، وهو تحجيم حزب الإصلاح، أياً كانت النتيجة، وذلك بغرض الدفع إلى الحد من سلطته في مدينة تعز التي يوليها التنظيم أهمية خاصة، في سياق تكريس تمركز سياسي، وإن كان نخبوياً ويفتقر للتأثير، إلى جانب التوهم أنه قد يعوّض، وفق سياسة المجلس الرئاسي في تحجيم "الإصلاح"، فرص تمكينه في منظومة السلطة الجديدة. وخلافاً للتنظيم، تبدو دوافع الحزب الاشتراكي اليمني أكثر تعقيداً، وإنْ حرّكتها المصالح السياسية وحسابات الجغرافيا.
الحزب الاشتراكي أكثر من غيره من الأحزاب يدرك فشل تجربة المجالس الرئاسية في اليمن، ودورها في تفجير الصراع
لجنوب اليمن، سياسياً وجغرافياً وتاريخياً، تأثير حاسم في السياسة العامة التي يتبنّاها الحزب الاشتراكي اليمني، إذ تفرض ثقلها على مقارباته المحلية، وعلى موقفه من الكيانات السياسية التي تتصدّر الساحة الجنوبية، فباعتباره حزب دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقاً، وباعتبار منشئه حزباً جنوبياً، وإنْ كانت أدبيّاته وحدوية، فقد ظل الشأن الجنوبي حاضرا في القرار الذي تتبنّاه أطره الرسمية، كما أن عقدة التضحية بـ "جنوب اليمن" التي أفرزتها حرب صيف 1994، كونه كان شريكا في توحيد شطري اليمن، ألقى بثقله على تموضعاته السياسية في السنوات السابقة، إذ إن خوفه من فقدان التأثير على الساحة الجنوبية، ومن ثم على مستقبل جنوب اليمن جرّاء التطورات السياسية، حدّد سياسة الحزب، فبهدف الاحتفاظ برمزية الحضور جنوباً، وضمان الوصاية، حتى لو كانت شكلية، تبنّى طوال سنوات الحرب أي توجّه يعزّز من تمكين المجلس الانتقالي الجنوبي، القوة المسلحة التي تطالب بانفصال الجنوب، على الضد من أدبياته السياسية ونضالات قياداته التاريخية في توحيد شطري اليمن، ومن ثم شكل دعم صيغة المجلس الرئاسي، خيارا مناسبا لـ"الاشتراكي" بانضواء قوى جنوبية جامحة في سلطة انتقالية مؤقّتة، بحيث يستطيع ضمان ولاءاتها أو تطويقها على الأقل، ومع أن الحزب الاشتراكي أكثر من غيره من الأحزاب يدرك فشل تجربة المجالس الرئاسية في اليمن، ودورها في تفجير الصراع، كون تجربته في سلطة الجنوب شاهداً على ذلك، إلا أنه لم يكتفِ بالشرعنة لسلطة المرحلة في سياق ارتهانه لعواصم الإقليم، بل تبنّي خيار دعم تمكين "الانتقالي" في سلطة المجلس الرئاسي، بما في ذلك أحداث شبوة، ومع أن العلاقة بين الحزب الاشتراكي والمجلس الانتقالي لا يمكن، بأي حال، اعتبارها تحالفا سياسيا بين قوى متماثلة سياسيا، ناهيك عسكرياً، فإن ترضية "الانتقالي" على حساب القوى الأخرى وخيمة على "الاشتراكي"، إذ يقامر بتاريخه السياسي وبأدواته وما تبقى من أجهزته في استمالة قوى تناصبه العداء، كما أنّ التحوّلات العسكرية والسياسية في المشهد الجنوبي، والتي فرضت تمكين "الانتقالي"، أزاحت كل القوى الجنوبية، ناهيك عن قوةٍ لم تعد حاضرة إلا في كيانها التاريخي، قوة لها ما عليها من أخطاء وجرائم إبّان سلطتها في جنوب اليمن.
سياسة موالاة "الانتقالي" مقابل استعداء القوى الأخرى انعكست على منظمات حزبية خارج حسابات السيطرة على الساحة الجنوبية
وفي ظل سياسةٍ غير متوازنة، تحوّلت المنظمات الحزبية في مناطق الجنوب إلى رديف سياسي لـ"الانتقالي"، إلى جانب استقطاب القيادات العليا التي تشغل دوائر حزبية واستيعابها في هيئات "الانتقالي"، بحيث لم يعد للحزب عملياً وجود مستقل، بل أصبح صوتا سياسيا يدعم تمركز "الانتقالي" وسيطرته على جنوب اليمن. والأخطر أن سياسة موالاة "الانتقالي" مقابل استعداء القوى الأخرى انعكست على منظمات حزبية خارج حسابات السيطرة على الساحة الجنوبية، كالمنظمة الحزبية في مدينة تعز، إذ إن حدّة الاستقطاب للقواعد الحزبية جعلت المنظمة في قلب صراعٍ متعدّد القوى وضحية لها، بحيث تُناضل هيئته في تحييد سياستها المحلية، والاحتفاظ بالقدر الأدنى من الاستقلالية، وتبنّي موقف سياسي عقلاني من "الإصلاح" والقوى الأخرى، فمع شرور حزب الإصلاح في سياسته حيال شركائه نهجه الاستحواذي في السيطرة على السلطة، فإن نتائج سياسة تمكين قوى انفصالية تتجاوز الخصومة مع "الإصلاح" إلى بعد وطني أشمل، لا تجعل أحزاب اليسار على الضد من تمثلاتها في الدفاع عن المشروع الوطني لليمنيين، بما في ذلك تضحياتها، بل رديف لمشاريع التفتيت وقواه المتغلّبة، سواء بسوء نية أو بسذاجة التجديف مع التيار.