عن تحميل السوريين وزر جريمة سياسية في لبنان
يتعرّض السوريون في لبنان إلى حملة كراهيةٍ منظّمة، تقودها قوى سياسية طائفية، تريد توظيفها لصالح أجندتها في استكمال هيمنة أزلامها وزعرانها على لبنان، وإبعاد الأنظار عن مسؤوليتهم في خراب هذا البلد وتمزيق نسيج ناسه، وجعل غالبيّتهم يعيشون واقعاً لا يُطاق، وبما يوصلهم إلى الحضيض، حيث لا يتوقّفون عن الركض اليومي لاهثين من أجل تأمين أبسط حاجات العيش الضرورية للبشر.
ولا تختصر الاعتداءات والهجمات العنصرية التي يرتكبها لبنانيون، مدفوعون وحانقون، ضد اللاجئين السوريين في لبنان، إلى مجرّد ردة فعل على جريمة خطف وقتل منسق حزب القوات اللبنانية في منطقة جبيل، باسكال سليمان، فالمسألة أكبر من ذلك، كونها تدخل في سياق الحملة القديمة والمتجددة الهادفة إلى إخراج السوريين في لبنان، ورميهم في مناطق سيطرة نظام الأسد، وتقف وراءها قوى طائفية لها مصلحة في تسعير العداء لهم، وتحميلهم وزر ما اقترفته القوى نفسها من جرائم بحقّ غالبيّة اللبنانيين والسوريين، والتي أشاعت تهويمات خطاب شعبوي وعنصري منفلت، ووجدت صداها لدى عديدين معتاشين على الخراب في نظام المحاصصة الطائفية اللبناني، حيث نشأت في سياق إعادة إنتاج الكراهية والعنصرية حملات رخيصة ومقيتة، تستهدف اللاجئين السوريين، وراءها رموز هذا النظام وقادته، كي يجعلوهم كبش فداء للأزمات المستفحلة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي أدخل فسادهم وممارساتهم لبنان فيها، ويحاولون التنصّل من مسؤوليتهم الكاملة عنها عبر محاولة إلقائها على عاتق اللاجئين السوريين، كونهم حلقة ضعيفة جداً لا أحد يدافع عنها، ولا تتمتع بأي حقوق في عالم من التوحش.
يحاول بعض اللبنانيين تحميل وزر جريمة قتل سليمان لكل السوريين في لبنان، بمن فيهم وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال، بسّام مولوي، الذي يتعامى عن حقيقة أن الجريمة سياسية، وارتُكبت من أجل انتزاع معلومات منه، كونه شخصاً ليس من عامّة الناس، بل هو مسؤول في حزب القوات اللبنانية، ما يعني أنها لم تُرتكب بدافع السرقة، مثلما يحاول الوزير وأجهزة وزارته ترويجه، ولو كانت كذلك، فما الغاية من خطفه أولاً، ثم نقله إلى داخل الأراضي السورية ثانياً؟
الغريب أن مولوي ينحدر من سلك القضاء، ويعي تماماً الفرق بين مجرمين خطفوا شخصاً ونقلوه إلى داخل مناطق سيطرة نظام الأسد ولاجئين هرب معظمهم من جحيم نظامه. وبالتالي، كان عليه عدم القفز على حقيقة أن أي جريمة تقوم بها "عصابة سورية"، لا يمكن تحميلها إلى اللاجئين السوريين، فالجرائم يتحمّل مسؤوليتها من ينفذها ويقف وراءها، والقضاء وحده من يحدّد المسؤولية.
تكمن مشكلة لبنان في طبيعة نظام المحاصصة الطائفية فيه، والذي يحاول بعضهم تجميله، والزعم أنه يقوم على الديمقراطية التوافقية
اللافت أن المسؤولين اللبنانيين حاولوا جاهدين تسويق رواية أن الجريمة كانت بهدف سرقة سيارته، لكنهم لم يتساءلوا حول قدرة "عصابة سورية" على أن تنشط في لبنان في وضح النهار، فتتعقّب سياسيّاً وترصُده، فتخطفه مع سيارته، وتخرجه من لبنان بكل سلاسة وسهولة، عابرة به الحدود التي يسيطر عليها حزب الله، ثم تقتله في منطقة القصير السورية التي يسيطر عليها الحزب نفسه منذ عام 2012. لذلك من الطبيعي أن يشكك لبنانيون كثر في رواية المسؤولين اللبنانيين، وفي قدرة الأجهزة القضائية والأمنية اللبنانية حيال الجرائم التي تنفذ مثلما نفذت جريمة خطف سليمان وقتله، فهي غالباً ما تتمكّن من كشف جرائم متنوعة وتفكّك شبكات تجسس إسرائيلية، لكنها تتعطّل وتصاب بالشلل، عندما تحقق في أي جريمة سياسية أو اغتيال سياسي.
هناك عوامل وأسباب عديدة تدعم القول إن الجريمة سياسية لا جنائية، سواء فيما يتعلق بالمنصب السياسي للضحية، أو بتاريخ الصراعات بين أحزاب وأطراف نظام المحاصصة الطائفية، إذ سبق وأن ارتكبت فيه جرائم سياسية عديدة، وذهب ضحيتها كثيرون. لذلك ليس غريباً أن يطالب حزب القوات اللبنانية بأن "يكون التحقيق في جريمة قتل باسكال سليمان واضحاً وشفّافاً وعلنياً وصريحاً ودقيقاً بوقائعه وحيثياته. وحتى صدور نتائج هذا التحقيق نعتبر أن باسكال سليمان تعرّض لعملية اغتيال سياسية". والسوابق في هذا المجال لا تشي بأن يتحقق شيء مما يطالب به حزب القوات، إذ سبق وأن ارتُكبت جرائم عديدة ولم يجر فيها التحقيق المطلوب. ولعل جرائم الاغتيالات السياسية في لبنان لم تتوقف منذ إعلان استقلاله عام 1943، لكنها أخذت بدءاً من 2005 منحى متصاعداً باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، ثم كرّت سبحتها باغتيال الكاتب والصحافي سمير قصير والأمين العام السابق للحزب الشيوعي جورج حاوي وأخيراً الكاتب والناشط لقمان سليم.
باتت موازين القوى في نظام المحاصصة اللبناني تميل إلى من يمتلك السلاح الطائفي الأقوى
تكمن مشكلة لبنان في طبيعة نظام المحاصصة الطائفية فيه، والذي يحاول بعضهم تجميله، والزعم أنه يقوم على الديمقراطية التوافقية، فالتوافق المزعوم مقتصر على تفاهمات تجري بين زعماء الطوائف والمتنفذين فيها وفقاً لمصالحهم، ولم يكن ديمقراطياً، حيث لم تقم ديمقراطية توافقية على أساس المواطنة المتساوية، ولم تدعمها ثقافة ديمقراطية، بل جرى التحكم بالتوافق من عائلات تتحكم بكل طائفة، وحتى الأحزاب التي ولدت بالحلول محلّ بعض السلالات الطائفية لا تؤمن بقيم الديمقراطية ولا تلتزمها، وتحوّلت العلاقات بين مختلف الطوائف اللبنانية إلى علاقات محاصصة، مرتهنة وخاضعة لموازين القوى الدولية والإقليمية، وبما أفقد الدولة اللبنانية وزعاماتها الطائفية قرارها المستقل، فيما شكّل السلاح الذي تركّز بيدي حزب الله وحركة أمل، قوة رادعة، أزاحت التوافق جانباً، وحوّلت التعايش الطائفي في لبنان إلى ما يشبه حرباً باردة بين الطوائف، يتفوّق فيها صاحب المليشيات الأقوى، الذي يمتلك سلاحاً يتجاوز سلاح الدولة اللبنانية ويتفوّق عليه.
إذاً، باتت موازين القوى في نظام المحاصصة اللبناني تميل إلى من يمتلك السلاح الأقوى، الذي عادة ما يلجأ إلى خلط الأوراق والعبث بالاستقرار لصالح أجندات معيّنة، ولعلّ استهداف السوريين في لبنان يأتي استكمالاً لحملات ترحيلهم، بإلصاق الجرائم بهم لبلوغ مسعاه، خصوصاً وأن ما يسود في لبنان ينهض على سياسة الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة.