عن اهتزاز التوازنات الدولية بعد أوكرانيا
فعلها الرئيس الروسي، بوتين، وبدأ حملته ضد أوكرانيا، غير آبه بالعقوبات التي بدأ الغرب بفرضها على بلاده، وهدفه المعلن يتجاوز السيطرة على إقليم دونباس شرقاً، إلى تطويق العاصمة كييف وإسقاط نظامها وتنصيب نظام موالٍ لروسيا، وترسيخ قواعدها العسكرية لحماية هذا النظام؛ فبوتين يعتبر أوكرانيا، إضافة إلى جورجيا وبيلاروسيا وكازاخستان، من ملكياته، ولا يسمح بذهابها باتجاه الغرب، وليس من حق حلف شمال الأطلسي (الناتو) التوسّع شرقاً، ويطالب بسحب قواعد الحلف من الدول التي ضمها، كبولندا ودول البلطيق وغيرها. وهو يجد في حالة الترهل في النظام الدولي فرصة ذهبية لاستعادة مكانة روسيا دولة عظمى، ويعمل، بالقوة العسكرية الفجّة، على امتلاك أوراق تفاوض قوية مع حلف الناتو بشأن إعادة رسم حدود نفوذ الطرفين.
خبر الزعيم الروسي بنفسه محدودية تأثير ردود فعل الغرب، منذ استيلائه على شبه جزيرة القرم في 2014، وكذلك في تمكينه النظام في سورية أمرا واقعا، مخالفاً مقرّرات بيان جنيف 1 بإحداث انتقال سياسي في السلطة، والتي توافق عليها مع الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، في 2012، وقبل ذلك سيطرته على جورجيا في 2008. ولا يشوب فجاجةَ قراراتِه الفردية، أية ديمقراطية أحزابٍ أو حرية رأيٍ أو اعتبارٍ للرأي العام الروسي، كما هو حال خصومه الغربيين. ويبدو كأن هدفه تحقيق طموحه الشخصي بأن يكون رجل روسيا الذي سيعيدها فاعلا أساسيا متحكّما ضمن عالم متعدّد الأقطاب. هذه المغامرة البوتينية لا يكفيها إقدام سيد الكرملين وتصميمه القوي لتؤتي أُكُلَها؛ فمنذ الأيام الأولى، بدا أن أوكرانيا مستنقع جديد ومؤلم لروسيا، وفق ما تظهره مشاهد لجثث آلاف الجنود الروس، بسبب المقاومة التي يبديها الأوكرانيون، حيث يقطن أوكرانيا 46 مليون نسمة، ومعظمهم كاره لروسيا.
تحقيق الغاية الروسية من غزو أوكرانيا مرتبط بسرعة تنفيذه، والحيلولة دون أن يتحوّل البلد إلى مستنقع يطيح كل طموح بوتين، وهذا ما لا يمكن التكهن به
استطاع بايدن الضغط على الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، لتجاوز خلافاته، وتوحيد صفوفه في ما يخصّ الرد على الاجتياح الروسي لأوكرانيا، حيث يقع على عاتق الجيش الأميركي الدور الأكبر ضمن الحلف في حماية الدول الأوروبية. ويتركز هذا الرد في ثلاثة أمور؛ أولاً، تحويل أوكرانيا إلى مستنقع لروسيا، عبر تقديم الدعم اللوجستي والتسليح الخفيف والقليل من السلاح المتوسط. وبالتالي، إطالة أمد الحرب واستنزاف الجيش الروسي. وثانياً، فرض حصار اقتصادي مشدّد على روسيا، وإقصاء بعض الشركات من نظام سويفت. وبالتالي سيكون هناك هبوط حادّ في قيمة الروبل الروسي في الأشهر المقبلة، ما سينجم عنه بلبلة داخلية، بسبب تصاعد الأزمات المعيشية. وثالثاً، إيقاف طموح بوتين عند حدود أوكرانيا وبيلاروسيا وجورجيا، فأوكرانيا ليست ذات أهمية بالنسبة لحلف شمال الأطلسي، بينما هي أولوية بالنسبة لروسيا؛ حيث عزّز الحلف قواته في بولندا ودول البلطيق وباقي الدول التي انضمت إليه، وهذا يعني رفضه المطلب الروسي بانسحابه من الدول المجاورة لروسيا.
تحقيق الغاية الروسية من غزو أوكرانيا مرتبط بسرعة تنفيذه، والحيلولة دون أن يتحوّل البلد إلى مستنقع يطيح كل طموح بوتين، وهذا ما لا يمكن التكهن به. أما اقتصادياً، فقد بدأ منذ احتلاله جزيرة القرم، في 2014، بالاستعداد لهذه اللحظة، حيث حاول تقليص تعامله بالدولار إلى 10%، والتوجه إلى اليورو واليوان الصيني. وفي العام نفسه، وقع مع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، عقداً طويل الأمد لتصدير الغاز إلى الصين، بقيمة 400 مليار دولار، وتضاعف حجم التبادل التجاري بين البلدين، وفي 4 الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، وقع مع الصين اتفاقاً آخر طويل الأمد، لمد أنبوب جديد للغاز إلى الصين، وتعهدات بمضاعفة قيمة التبادل التجاري، وهذا يعني أن الصين داعم ضمني لروسيا، وإن كان موقفها السياسي رافض غزو أوكرانيا، ولم تعترف سابقاً بضم روسيا لجزيرة القرم، ولا بجمهوريتي لوغانسك ودونتسيك، ولا ترغب بتضرّر علاقاتها التجارية مع أوروبا، ولا تريد استفزاز الولايات المتحدة. تتفرج على المشهد الأوكراني بشيء من الحيادية، لكنها مهتمة في استثماره لمصلحتها؛ فهي تملك قوة اقتصادية وتكنولوجية كبيرة وصاعدة، يضاف إلى ذلك صعودها السياسي والعسكري، الأمر الذي تفرّغت الولايات المتحدة للتصدي له منذ سنوات، حيث تركّز الاستراتيجية الأميركية على تكثيف القواعد العسكرية في بحر الباسيفيك قرب الصين، وبناء تحالفات مع الدول المعادية لبكين. على ذلك، تشكلت قناعة أميركية بتجنب التدخل العسكري المباشر في الدول، نظراً إلى الكلفة الهائلة البشرية والاقتصادية التي دفعتها أميركا في الحروب التي خاضها جورج بوش الابن في العراق وأفغانستان، واعتمدت منذ عهد أوباما سياسة الانسحاب من المستنقعات التي غرقت فيها.
الروس ستجهدهم الحرب الأوكرانية، وحتى لو انتصروا، سيكونون ضعفاء في التوازنات الجديدة الممكنة
من المبكر القول إن غزو روسيا لأوكرانيا نقطة بداية لتشكل نظام عالمي جديد، متعدّد الأطراف، أو بقطب واحد هو الصين؛ لكن الأكيد أن أزمة أوكرانيا أظهرت مدى اهتزاز التوازنات الدولية السابقة، والتي كانت قائمةً على الهيمنة الأميركية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فالأكيد أن هناك تراجعاً لدور أميركا العالمي، بدأ مع الأزمة المالية العالمية في 2008، وصعود الصين الاقتصادي، وانسحاباتها العسكرية من العراق وأفغانستان، وتركيز وجودها العسكري في الباسيفيك، وتركها سورية لروسيا. وهذا ترتب عليه افتراق مع دول الشرق الأوسط؛ فالعرب يشعرون بالخذلان الأميركي نتيجة غض النظر عن سياسة إيران التوسعية، وإسرائيل غاضبة من العودة إلى الاتفاق النووي مع طهران، وتركيا مختلفة مع واشنطن بشأن ملفات عديدة، أدت إلى تقاربها الأمني والسياسي مع روسيا. وهناك افتراق في المصالح بين واشنطن وأوروبا، المنشغلة بأزماتها الداخلية، بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والأزمات المالية الناتجة عن جائحة كورونا، وألمانيا لا تستطيع الاستغناء عن مصادر الطاقة الروسية، وهناك علاقاتٌ تجاريةٌ قويةُ بين الاتحاد الأوروبي والصين، والغضب الفرنسي من الولايات المتحدة بسبب حلف أوكوس في استراليا. وهذا يجعل أوروبا تراجع ارتباطها الأمني والعسكري والاقتصادي بالولايات المتحدة؛ فهي أكثر المتضرّرين من أزمة أوكرانيا، في حين أن الروس ستجهدهم الحرب الأوكرانية، وحتى لو انتصروا، سيكونون ضعفاء في التوازنات الجديدة الممكنة. الصين هي الرابح الأكبر، وتتطلّع إلى استثمار ما يجري في أوكرانيا، أياً كانت نتيجته، في بناء تحالفات عالمية جديدة.