عن انتخاباتٍ ربما تجري في شمال شرق سورية
أعلن قائد "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، مظلوم عبدي، في اليوم الأخير من العام المنصرم، في تغريدة على "تويتر"، أن "إجراء الانتخابات هي أولويتنا في العام الجديد". ومع أنه لم يحدد المنطقة الجغرافية التي ستشهد الانتخابات، إلا أن المتوقع أن تكون شاملة لكل ما تبقى من شمال شرق سورية تحت سيطرة "قسد"، بخلاف الانتخابات التي جرت في نهاية 2017، واستثنت منها الرقة ومنبج والطبقة، لعدم انضمامها للنظام الفيدرالي المعلن آنذاك، قبل أن تتغير خريطة التسميات والمصطلحات الجغرافية والسياسية، بما يشكله مضمون تلك التسميات، بعد عملية "غصن الزيتون" في بدايات 2018، حيث أعلنت الإدارة الذاتية 1/12/2017 موعداً لإجراء انتخابات الإدارة المحلية، للمدن والبلدات في المناطق الخاضعة لسلطة "الإدارة الذاتية"، في إقليم الجزيرة، أي مقاطعتي الحسكة والقامشلي، وإقليم الفرات، وكان يضم تل أبيض وكوباني (عين العرب) وإقليم عفرين الذي ضم مقاطعتي عفرين والشهباء، مرحلة ثانية من انتخابات "فيدرالية شمالي سوريا" وفق التسمية آنذاك، بعد إجراء المرحلة الأولى المتمثلة في انتخابات الرئاسة المشتركة للكومينات (مجاميع السكان). وكان من المقرّر إجراء انتخابات مجلس الشعوب الديمقراطية بمثابة برلمان الفيدرالية في يناير/ كانون الثاني 2018. وعلى الرغم من مساعي "الإدارة الذاتية" لمنح انتخاباتها بعدا كردستانيا ودوليا، حيث لبت بعض أحزاب برلمان كردستان العراق دعوة الإدارة إلى الإشراف على الانتخابات بصفة مراقب، كما حضر ممثلون عن حزب الشعوب الديمقراطية ومؤتمر المجتمع الديمقراطي، ولم يحضر ممثلون عن دول أوروبية أو منظمات دولية معتمدة.
مسار جنيف وقرار مجلس الأمن 2254 يرفضان إجراء أيَّ انتخاباتٍ أحادية الجانب
أجهضت العملية العسكرية التي قادتها تركيا وفصائل المعارضة السورية كل المشاريع التي نادت بها "الإدارة الذاتية"، وقضمت مقاطعة عفرين من إقليم عفرين، وكان ذلك ضربة قوية لمشروع الفيدرالية، والذي بدا واضحاً إن إجراء تلك الانتخابات كان أحد الأسباب الرئيسية لرفع درجة الرفض والغضب التركي والمعارضة السورية. وأخيرا، شكلت عملية "نبع السلام" الضربة القاضية لمشروع الفيدرالية الذي نادت به "الإدارة الذاتية" وباقي تشكيلاتها السياسية والعسكرية، حيث سيطرت على مقاطعة تل أبيض ضمن إقليم الفرات، ومدينة سري كانيه ضمن مقاطعة الحسكة في إقليم الجزيرة.
تثير تغريدة مظلوم عبدي أربعة أسئلة تخفي وراءها شجون أبناء المنطقة وهمومهم ومخاوفهم. أولها: إجراء الانتخابات كانت من ضمن مخرجات مؤتمر "مجلس سوريا الديمقراطية" (مسد). ولكن عن أيّ انتخاباتٍ تتحدث "قسد" و"الإدارة الذاتية"، هل ستكمل مشروعها الانتخابي الذي بدأته في 2017، وإن تحت تسمية سياسية جديدة. كما ورد أيضاً في البيان الختامي "الحفاظ على السلم والأمن المجتمعي، وترسيخ مفاهيم المواطنة وقبول الآخر" إضافة إلى بنود أخرى، لكن المقاطعة السياسية لأطراف غير منتمية للإدارة الذاتية، مع منتسبيها ومؤيديها، يشكل عصب مثبطات السلم الأهلي وتهديداته، فمن خلال ندواتها الـ13، ومؤتمرها الذي عقد في الحسكة في 25/11/2020، أكّدت "مسد" على الحل السوري من دون تدخل خارجي، واستعدادها للحوار مع المعارضة، بل وحتى تركيا، ورغبتها في "متابعة الحوار مع كافة الأطراف السورية المؤمنة بالحل السياسي الوطني والتغيير الجذري الديمقراطي دون استثناء". والمعلوم أن مسار جنيف وقرار مجلس الأمن 2254 يرفضان إجراء أيَّ انتخاباتٍ أحادية الجانب. ومع وجود مكونات "جبهة السلام والحرية" التي تنشط ضمن نطاق سيطرة "قسد"، و"مسد"، و"الإدارة الذاتية" وضمن أروقة المعارضة واللجنة الدستورية، والتي كسبت تأييداً مبدئياً من الدول الفاعلة في الشأن السوري، فإن مقاطعتها مع احتمالية الضغوط التي ستتعرّض لها المنطقة جرّاء إجراء الانتخابات في هذا التوقيت مع هذه الظروف، ومقارنةً مع حجم المخاوف منها، رُبما يُعتبر ضربة قاصمة للمنطقة.
فقد المجلس الكردي أكثر من نصف قوته الجماهيرية والشعبية، جرّاء الهجرة أو انخراطهم ضمن مؤسسات الإدارة الذاتية
السؤال الثاني: هل ثمّة ضمانات أميركية واضحة بشأن إجراء الانتخابات، خصوصا أن الرئيس الأميركي الجديد، بايدن، وإدارته، لم يستلموا مهامهم بعد، ومن أبرز الملفات والقضايا التي تنتظرهم، كيفية تفعيل المسار السياسي للمعضلة السورية، وكيفية تفعيل الحوار الكردي – الكردي وتطويره، وعمل اللجنة الدستورية. وفقاً لذلك، ثلاثة مُحدّدات تعلن عن نفسها ضمن السؤال الثاني. الأول: لو دعمت الإدارة الأميركية هذه الانتخابات، فهي حتماً ستؤدي إلى تشكيل كيان خاص بالنطاق الجغرافي الذي ستشمله الانتخابات، مترافقاً مع عدم تفعيل مسار اللجنة الدستورية حتى نهاية الجولة الرابعة. ومع اتفاق موسكو ودمشق على إجراء الانتخابات الرئاسية في إبريل/ نيسان المقبل، فإن اللجنة الدستورية ربما تلفظ آخر أنفاسها. الثاني: في حال غياب دعم الولايات المتحدة وموافقتها الواضحة، فإن المخاوف من عملية عسكرية جديدة لتركيا والفصائل المسلحة ربما الأقرب إلى التوقع، وبذلك يُعاد سيناريو حملة غصن الزيتون رداً على الانتخابات آنذاك. الثالث: ما يعني أن روسيا والنظام السوري ينتظران الموقف الأميركي لتنفيذ تدخلهما عسكرياً في المنطقة، أو توزيع الأدوار ما بين تمييع اللجنة الدستورية، ومحاولة تفعيل مسار أستانا على حساب مسار جنيف.
والسؤال الثالث: ماذا عن موقف المجلس الكردي أولاً وباقي المكونات ثانياً؟ وهو يطرح ثلاثة مُحددات لرسم موقف سياسي واضح من تلك الأطراف حيال الانتخابات. أولها: ثمّة اتفاق بين المجلس الكردي وأحزاب الوحدة الوطنية الكردية، حول إجراء الانتخابات بعد عام من الاتفاق النهائي على كل السلال. ما يعني أن رفض المجلس الكردي المشاركة سيكون مؤكداً، فالإدارة الذاتية، ووفقاً لمسؤوليها، تمتلك 120 ألف موظف مدني، وقرابة الـ80 ألف عسكري، عدا عن المستفيدين من الشبكات الاقتصادية الناشئة، واقتصاد الحرب، وإمكانية التحكّم بأصوات النازحين إلى شمال شرق سورية. في حين أن المجلس الكردي فقد أكثر من نصف قوته الجماهيرية والشعبية، جرّاء الهجرة أو انخراطهم ضمن مؤسسات الإدارة الذاتية لأسبابٍ تتعلق بظروف المعيشة وغيرها.
توجد أطراف عربية في جسد "الإدارة الذاتية" في محافظة الحسكة، إلا أنها لا تتمتع بثقل شعبي سياسي
الثاني: الموقف السرياني الأشوري من هذه الانتخابات، فالمنظمة الأثورية الديمقراطية، وهي المنتمية إلى خمسينيات القرن الماضي، حيث تاريخ بدئها العمل السياسي، ترفض المشاركة في هذه الانتخابات، لأسبابٍ مركبةٍ، تتعلق بتمثيل الشارع السرياني الأشوري، وهي التي تعتمد، في أدبياتها، على تاريخانية عملها السياسي، مقابل أطرافٍ أخرى تقول عنها إن عمرها السياسي العلني لا يتجاوز بضعة أعوام، وهي تشكل جزءا من الإدارة الذاتية. لذا يشبه نجاح الأطراف السريانية الأشورية ضمن "الإدارة الذاتية"، بدلاً من المنظمة الأثورية، إلى حد بعيد، أساليب (وأدوات) نجاح أحزاب الإدارة الكردية على المجلس الكردي. ووفقاً لذلك، فإن مقاطعة المنظمة الأثورية تشكل ضرباً في عمق عملية الانتخابات، من حيث عدم مشاركة المكونات خارج إطار السلطة الموجودة حالياً. المحدّد الثالث هو المتعلق بالمكون العربي، لا وجود لجماعاتٍ عربيةٍ تمتاز بثقل جماهيري أو سياسي ضمن جسم الإدارة الذاتية، حيث يشكّل المجلس المدني في الرقة، ومثله في دير الزور، التمثيل العربي ضمن جسد "الإدارة الذاتية" في تلك المناطق. وإذ توجد أطراف عربية في جسد "الإدارة الذاتية" في محافظة الحسكة، إلا أنها لا تتمتع بثقل شعبي سياسي. في الجهة المعاكسة، لدى "الإدارة الذاتية" و"قسد" كتلة عشائرية عربية لا يُستهان بها، ستشارك حتماً في تلك الانتخابات، في مقابل مقاطعة العشائر العربية الموالية لتركيا، روسيا، الحكومة السورية. بمعنى أن الانقسام حيال الانتخابات سيكون على مستوى العمق والمكونات عمودياً وأفقياً.
لم يعد من مجالٍ لتأجيل التوافق السياسي في المنطقة في ظل الانسداد السياسي للحل حول سورية
السؤال الرابع: متعلق بالحيز الجغرافي المشمول بالانتخابات، فمشاركة الرقة ودير الزور ومنبج والطبقة بدائرة انتخابية واحدة، إلى جانب "المدن الكردية"، سيعني حتماً خسارة الكرد في تلك الانتخابات، خصوصا مع نسبة الهجرة الفظيعة لتلك المناطق، والتي بلغت قرابة 50% وفق دراسة ميدانية أعدّها كاتب هذه السطور في 2017. وتشكل هذه الجغرافيا أرقاً ورفضاً وسببا إضافياً من الأطراف الكردية خارج الإدارة، للمشاركة في هذه الانتخابات. إذ ليس مطلوبا أن تكون المنطقة وحدة جغرافية، ويخسر الكرد في انتخاباتٍ من قبيل مجلس عام/ برلمان. وعلى صعيد تجزئة المنطقة إلى دوائر انتخابية منفصلة عن بعضها بعضا، فإن القضية التي تتأرجح حالياً هي الحوار الكردي الداخلي، ورفض المجلس المشاركة في إدارة المحافظات والمدن العربية. ما يعني تعقيدا جديدا على صعيد الإدارة العامة لشمال شرق سورية، خصوصا في ظل انتخابات أوضحت المواقف، مقاطعة شرائح ومكونات عديدة.
لم يعد من مجالٍ لتأجيل التوافق السياسي ضمن هذه الرقعة الجغرافية، في ظل الانسداد السياسي للحل حول سورية، فمن شأن أيّ توافقٍ أن يؤدّي إلى استقرار أعمق، واحتمالية الشروع في نقل الحدود الأمنية الهشّة إلى سياسية دائمة، بعد تلبية الشروط الموجبة تلك.