عن الكفاءات الجزائرية في المهجر
تطلّ علينا وسائل الإعلام، في الجزائر، بين الفينة والأخرى، ببرامج عن جزائريين برزوا في ميادين شتّى في المهجر، في أميركا وأوروبا والخليج، وهم، بحقّ، كفاءات جزائرية تعلّم أغلبهم في مدارس البلاد وجامعاتها، ثمّ سافروا ليبرزوا مهاراتهم، ما يثير الغرابة ويدفع إلى طرح إشكال: لماذا سافر هؤلاء ولماذا أُتيح لهم الظّهور في الخارج وليس في بلدهم، الجزائر؟
تحاول المقالة البحث في أسباب هجرة الكفاءات أو ما يُعرف، في لغة الموارد البشرية، بالمادّة الرّمادية، فثمّة تداعيات كبيرة على فقدان الجزائر فرصة الاستفادة من كفاءاتٍ جرى تأهيلها في البلاد، ولا يتمّ الاستفادة من استثمار هو الأغنى، الاستثمار في الإنسان، فهل مردّ الإشكال السّياسة العامّة للتّشغيل، للتّكوين، بمعناه الواسع، أم ثمّة أسبابٌ أخرى، يجب البحث عنها لوقف النّزيف وإشراك تلك الكفاءات في بناء نموذج الإبداع والابتكار، هنا، وليس لمصلحة الآخرين، مع الاعتراف بأنّ التواصل بين مختلف البيئات أو العمل في ميادين بعينها، في الخارج، قد يكون، على المدى المتوسّط، مفيداً للوطن ولعجلة التقدّم فيه من خلال تراكم التّجارب، بصفة خاصّة؟
هناك توطئة لا بدّ منها لتناول مثل هذا الموضوع، وهو الخلفيّة السّوسيولوجية التي يمكن رؤية الإشكالية من خلالها، حيث ينقسم المجتمع من حيث تركيبته إلى ثلاث طبقات: الأثرياء، الطّبقة المتوسّطة، وتليهما، في قاع المثلّث الاجتماعي، الطّبقة الفقيرة. ولا يمكن، وفق رؤى علماء الاجتماع، لأيّ مجتمع أن تستقيم تركيبتُه وينعم بالحركيّة والحيويّة، إذا لم يكن ثمّة اهتمام بالطبقة المتوسّطة التي تُعرف برمّانة المجتمع. وكلّما كانت أقرب إلى الحرّية والكرامة في مؤشّرات العيش وتوفير فضاءات الابتكار والإبداع أقرب، كانت تلك الطّبقة قاطرة التّغيير والإبداع في المجتمع، بما تزخر به من كفاءات ونخبة في مختلف الأصعدة، وهو ما كانت الجزائر تتوفّر عليه إلى زمن قريب، بفضل منظومة تربوية وجامعية كانت ذات كفاءة في التّكوين وتخريج نوعي للكفاءات، من أمثال الذّين انتقلوا إلى الخارج وبرعوا فيه، في تلك الميادين، بل أضافوا إلى تلك المهارات مهارات أخرى اكتسبوها في بيئات عمل وبحث جيّدة، وصلت بهم إلى الصّيت الذي أصبحوا عليه.
لا يمكن لأيّ مجتمع أن تستقيم تركيبته وينعم بالحركية والحيوية، إذا لم يكن ثمة اهتمام بالطبقة المتوسطة التي تُعرف برمّانة المجتمع
نصل إلى ذلك الاهتمام الإعلامي لكفاءات جزائرية برزت في الخارج، ولم تجد مكاناً لها تنخرط، من خلاله، في مخطّط بناء الاقتصاد الجزائري، ذلك الاهتمام الذي لا يُبرز إلا منجزات تلك الكفاءات في الخارج، من دون أن يطرح الإشكالية الأجدر بالبحث معهم، وهي الظّروف التي دعتهم إلى ترك البلاد والهجرة إلى مواطن الكشف عن مهاراتهم أو، لنبسّط الأمر، أكثر، لماذا لم تعقد تلك القنوات الإعلامية نقاشات/ جلسات بقصد الكشف عن الإشكالات التّي يطرحها موضوع هجرة الكفاءات، على غرار الاستثمار في الموارد البشريّة من خلال مؤشّرات التّكاليف (تصل تكاليف تكوين إطار في أيّ ميدان تقني إلى ما يربو على مائة ألف دولار وقريب من ذلك المبلغ تكاليف تكوين طبيب عام قد تُضاف إليه حوالي 20 ألف دولار إذا كان ذلك الطبيب متخصّصاً). أسباب ضعف أداء بيئة البحث عندنا، تداعيات عدم إيجاد الظروف الجاذبة/ الحافظة لمواردنا البشرية ذات الكفاءة العليا، أسباب تردّي مستويات المنظومتين التّربويــة والجامعية، لماذا لا توفّر بيئة العمل عندنا إمكانية الأجور المرتفعة في مستوى مهارات تلك الكفاءات ومردودها؟
كما لا يمكن إغفال الحديث، هنا، ونحن نتحدّث عن إشكالات هجرة الكفاءات، الإشارة إلى مناخ الأعمال والتّعقيدات البيروقراطية التي تحول دون تجسيد مشاريع إنشاء مؤسّسات تكون حاضنة للأفكار ومنتجة للابتكار بشتّى أنواعه، خصوصاً منها ما أضحى يُعرف بالذّكاء الاصطناعي أو الابتكار الافتراضي والمعلوماتي بكل ما يتوفّر عليه من متغيّراتٍ تمسُّ حياة النّاس اليومية.
ونحن نتحدّث عن إشكالات هجرة الكفاءات، لا يمكن إغفال الإشارة إلى التعقيدات البيروقراطية التي تحول دون تجسيد مشاريع إنشاء مؤسسات تكون حاضنة للأفكار
في الحقيقة، تدعو تلك الإشكالات، لو أنّها طُرحت، بحقّ، إلى تشخيص ظاهرة هجرة الكفاءات إلى الخارج كما تطرح، في الوقت نفسه، إشكالات تشير إلى فهم لماذا فشلت السّياسات العامّة في البلاد، على الأصعدة كلها، في توفير ظروف تحافظ، ولا تطرد تلك الكفاءات، وبسبب إغفال تلك المعالجات الإعلامية لتلك الإشكالات، فانّ عملها قد يكون دعوة إضافية إلى تصدير لمعان الجهات الجاذبة لتلك الكفاءات لتغادر موارد أخرى إضافية، كما هاجر الآلاف من الأطبّاء، والمهندسون، والباحثون، منذ العشرية السوداء في تسعينيات القرن الماضي) إلى فضاءات توفّر بيئات عمل أفضل من الجزائر.
بالتأكيد، يجب ألا يفهم أصحاب تلك القنوات أنّ الكاتب هنا يرفض التّعريف بتلك الشّخصيات المرموقة التي تصنع النّجاح وتكون محفّزاً وحافزاً للمبدعين وأصحاب الأفكار لتمثل نجاحاتهم في مساراتهم، لكن، نريد أن تطرح مع تلك النّجاحات إشكاليات مانعة من تلك الشخصيات من أن تكون عنصراً فاعلاً في بلدهم، في تقدّمه وفي استفادته مما تزخر به عقولهم، وبخاصّة أننا نعيش حالياً عصراً للأفكار فيه المكانة المحورية في إنتاج العلم، المعرفة والابتكار وتحويل ذلك إلى ناتج خام تتنافس فيه الدول على الريادة في العالم.
نريد، هنا، الشد على أيدي وزارة التعليم العالي التي جعلت من العام الماضي (2023) عاما للذّكاء الاصطناعي لمرافقة المبدعين، وهم كثر، في الجزائر، ومشاريع بحوثهم كثيرة بعضها لم يبرح أدراج مخابر البحث في البلاد، لأسباب كثيرة، ربما أشير إلى بعضها، كما نريد من الوزارة أن تعقد تلك الجلسات التي يجري فيها النّقاش حول الإبداع، قيمته، تكاليفه، فاعليه، ولماذا يهاجر بعضٌ منهم وكيف يمكن، بمبادرات وسياسات عامة، الحفاظ على بقائهم في بلادهم منتجين للمعرفة ومشاركين في صنع تطور البلاد.
تحتاج الجزائر إلى إرادة حقيقية لتتحول إلى حالة الإنتاج الفعلي للأفكار والاستفادة من الموارد البشرية التي تزخر بها
نريد حلولاً لظاهرة هجرة تلك العقول من خلال سنّ قوانين أساسيّة ترفع من شأنهم في المجتمع، وتوفّر لهم أجوراً لائقة بإبداعاتهم، وتفتح لهم المجال للمقاولاتية من دون تعقيدات وبمساعدات مالية في شكل شراكاتٍ، نرى في بيئات أخرى كيف استطاعت أن تجذب المبدعين، وتجعل منهم أصحاب المليارات بعملهم. نريد أن تتحوّل الدعوة تلك عاماً للذكاء الاصطناعي، ومنعرجاً لإيجاد مناحي أعمال يتيح تجسيد تلك الشراكات من خلال مسار يحوّل البحوث إلى مشاريع تقدم أمام مؤسسات حاضنة للمقاولاتية (الوزارة موجودة)، وتنال مقدار تجسيد تلك الأفكار في شكل تعاقدات مالية يتم رسم معالمها إما قروضاً أو شراكات مع ضمان تشغيل أيدٍ عاملة مبدعة وتوفير عقارات ومقارّ لتلك الشركات على شكل مدن للعلم والإبداع وشكل شركات "ستار أب" (Star Up). ويمكن لتلك الشخصيات التي تُدعى إلى الجزائر ممن جسّدوا أفكارهم في المهجر ونجحوا في أن تكون هي الراسمة لذلك المسار مع سلطات واسعة في الإشراف على التنفيذ ومراقبة التجسيد الفعلي لتلك الأفكار.
هي دعوة إلى تلك القنوات الإعلامية وإلى وزارة التّعليم العالي لرسم شراكة يتمُّ فيها التركيز على النجاح، مع تشخيص معالم جدلية الجذب والطرد، مردود النجاح، وتداعيات التجسيد الفعلي للمقاولاتية كما يجب أن تكون، خصوصاً إذا ترافق ذلك بعامل الاستفادة من تجربة الناجحين ممن يجري تركيز الأضواء عليهم. إنّها دعوة إلى الإبداع وتجسيد عالم الأفكار بتقييم مناخ العلم في بلادنا، ولم لا ننطلق من عوامل الفشل، سابقاً، لصنع النّجاح مستقبلاً في إطار نظريّة المؤرّخ البريطاني توينبي للتحدّي والاستجابة، والجزائر تملك تلك الإمكانية، لكنّها تحتاج إلى إرادة حقيقيّة لتحويل الجزائر إلى حالة الإنتاج الفعلي للأفكار والاستفادة من الموارد البشريّة التي تزخر بها.