عن العدوان الإسرائيلي على اليمن
شنّ الكيان الإسرائيلي في العشرين من شهر يوليو/ تمّوز الجاري عدواناً على الأراضي اليمنية، إذ استهدفت المقاتلات الإسرائيلية مدينة الحُديدة اليمنية، الواقعة على البحر الأحمر، بغاراتٍ عديدةٍ طاولت أهدافاً مدنيةً وبنى حيويةً ألحقت بها خسائر اقتصادية وبشرية. وفي حين أعلن الكيان الإسرائيلي أنّ عمليته العسكرية، التي سمّاها "اليد الطويلة"، مُبرّرة، وتأتي في سياق الردّ على مئات الهجمات التي نفّذتها جماعة الحوثي ضدّ الكيان الإسرائيلي، جديدها قبل يوم من الاعتداء عملية يافا التي استهدفت مدينة تل أبيب، فإنّ سياسة الرّدع التي يتبنّاها الكيان الإسرائيلي في حربه على قطاع غزّة أو باستهدافه مدينة الحُديدة لا تعني سوى جرّ المنطقة إلى دورة جديدة من التصعيد.
يُشكّل العدوان الإسرائيلي على مدينة الحديدة تحوّلاً في استراتيجية الاحتواء التي اتبعها الكيان الإسرائيلي في التعاطي مع تهديدات جماعة الحوثي، فعلى مدى أكثر من أشهر من خوض الجماعة معركتها البحرية لتفعيل حصار اقتصادي ضدّ إسرائيل، ودفعها إلى وقف الحرب في قطاع غزّة، استهدفت الجماعة عدداً من السفن الموالية لإسرائيل في النطاقات المائية التي تشرف عليها، بما في ذلك تنفيذ هجمات طاولت ميناء إيلات ومدينة حيفا. تجنّب الكيان الإسرائيلي خوض مواجهة مباشرة مع الجماعة في مقابل الاعتماد على حلفائه الغربيين، وفي مُقدّمتهم أميركا وبريطانيا، لتحجيم القدرات العسكرية للجماعة، وإعاقة استهدافها للعمق الإسرائيلي مباشرة، إضافة إلى تجاوز التداعيات الاقتصادية لاستمرار إغلاق البحر الأحمر أمام السفن الإسرائيلية، وتجريب خيارات آمنة بمساعدة شركائه الإقليميين. ومن ثمّ، فإنّ تغير استراتيجية تعاطي الكيان الإسرائيلي مع تهديدات الجماعة، من الاحتواء إلى المواجهة، فرضته كما يبدو مُتغيّرات عديدة، فإلى جانب استمرار حربه في قطاع غزّة، وفشله في القضاء على حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وتعثّر مفاوضات إطلاق الرهائن، تتصاعد حدّة الاشتباكات اليومية مع مقاتلي حزب الله في لبنان، وهو ما يعني صمود محور المقاومة واستنزافه إسرائيل في جبهات مُتعدّدة، في مقابل فشلها في استعادة استراتيجية الردع، الذي أكّده استهداف جماعة الحوثي مدينة تل أبيب بطائرة مُسيّرة.
نفّذت إسرائيل عمليتها العسكرية في اليمن في هذا التوقيت، خياراً مثالياً لاستعادة استراتيجية الردع خارج حدودها
وفي حين أعلنت إسرائيل، كالعادة، أنّ فشلها في اعتراض المُسيّرة التي أطلقتها جماعة الحوثي ناتج عن خطأ بشري، فإنّ اختراقها الأجواء الإسرائيلية يُشكّل تقويضاً إضافياً لأسطورة الجيش الإسرائيلي وتفوّقه، التي أطاحتها عملية طوفان الأقصى، التي نفّدتها حركة حماس، كما أنّ استهداف الجماعة مدينة تل أبيب، أي العمق الإسرائيلي، وللمرّة الأولى، وبطائرة مُسيّرة مُطوّرة عن "صماد 3"، اجتازت أكثر من ألفي كيلومتر، يعني التشكيك بالمنظومة العسكرية والأمنية والدفاعية الإسرائيلية، وفي قدرتها على تأمين إسرائيل من التهديدات الخارجية، إضافة إلى الخسائر البشرية، إذ قُتل إسرائيلي وأصيب عشرة آخرون، إلى جانب أنّ استهداف الجماعة مدينة تل أبيب يعني استهداف مركز الثقل الاقتصادي لدولة الاحتلال. ومن ثمّ، وفي ضوء استمرار هجماتها في البحر الأحمر، توقف ميناء إيلات، ممّا ضاعف التحدّيات الاقتصادية التي تواجهها الحكومة الإسرائيلية فلجأت إلى تنفيذ عملية عسكرية في اليمن خياراً مثالياً في هذا التوقيت، لاستعادة استراتيجية الردع خارج حدودها، ومن الجبهة اليمنية، وأيضاً محاولةً لتغيير إدارتها لطبيعة المخاطر التي تمثّلها جماعة الحوثي على أمن ومصالح إسرائيل.
التخطيط لردّ عسكري باستهداف مدينة الحديدة، وبعد يوم من استهداف جماعة الحوثي مدينة تل أبيب، يستلزم أكثر من اتخاذ قرار الردع بالنسبة للكيان الإسرائيلي، كما أنّ تنفيذ عملية عسكرية خارج حدودها، وعلى بعد أكثر من 1800 كيلومتر عن الأراضي المُحتلّة، يستلزم بالنسبة لكيان يشعر بالتهديد كالكيان الإسرائيلي، ويخوض حروباً في جبهات عديدة، ضمان نجاح العملية ودقّتها، وأيضاً تحقيق أهدافها، وذلك من خلال تنسيق عسكري وسياسي ودعم لوجستي من حليفيه الأميركي والبريطاني، والذي تمظهر بتزويد القوات الأميركية المقاتلات الإسرائيلية بالوقود، وأيضاً تنسيق سياسي بموعد العملية، إلى جانب تسهيل بعض القوى الإقليمية المتاخمة لليمن لاستهداف مدينة الحديدة، أو في الأقلّ تواطؤها، فرغم إعلان الكيان الإسرائيلي عبور المقاتلات المنطقة الدولية في البحر الأحمر، وأنّها لم تجتَز أجواء الدول المتاخمة لليمن، فإنّ تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين بعد أيام من استهداف مدينة الحديدة أكّد مستوى من التنسيق اللوجستي مع قوى إقليمية، إلى جانب أنّ وضع مدينة الحُديدة في قلب معادلة الردع الإسرائيلي ضدّ جماعة الحوثي يمثّل اختيار بنك أهداف حيوي مُتعدّد الأغراض، اقتصادي واستراتيجي، وهو ما يتماشى مع مقترحات المُتدخّلين الإقليميين في اليمن في سنوات الحرب لتوجيه ضربة للجماعة من خلال استهداف مدينة الحديدة مباشرة، والأكثر أهمّية وجود غطاء أميركي وبريطاني للهجوم الإسرائيلي على مدينة الحديدة، وذلك لتغيير معادلة تأمين الملاحة في البحر الأحمر من تهديدات الجماعة، إذ إن استهدافهما طوال أكثر من خمسة أشهر لمواقع الجماعة في اليمن لم يؤدِ إلى شلّ قدرتها العسكرية، ومع صعوبة توجيه أميركا وبريطانيا ضربات مباشرة للحديدة، فإنّ استهدافها من قبل إسرائيل، وتحت ذريعة الردّ على هجوم تل أبيب، يُحقّق غايةً عسكرية مشتركة لإسرائيل وحلفائها، إذ استهدفت الغارات الإسرائيلية جملة من الأهداف المدنية، والحيوية الاقتصادية، والبنى التحتية، ناهيك بالخسائر البشرية، فقتل أكثر من 14 مواطناً من العاملين في ميناء الحديدة، وهناك ستّة مفقودين، وأصيب أكثر من 90 مدنياً، واستهدفت الغارات مخازن الوقود والمازوت، ومخازن محطة شركة الكهرباء الرئيسية، وميناء الحديدة، وتسببت بإحراق أكثر من 40 مخزناً للبترول والمازوت والطاقة، وتدمير خمس رافعات في ميناء الحديدة، وهي ما تبقى من الرافعات العاملة في الميناء نتيجة خروج معظمها عن الخدمة بسبب سنوات الحرب. ومن ثمّ، هدف الكيان الإسرائيلي باستهداف مدينة الحديدة إلى إلحاق خسائر اقتصادية بالجماعة لأنّها ميناء رئيس يغذّي المناطق الخاضعة لها بالوقود والغذاء أيضاً، مع صعوبة معرفة تداعيات الغارات الإسرائيلية على الوضع الاقتصادي وعلى حياة اليمنيين حتّى الآن، إلى جانب ذلك توجيه رسائل سياسية بقدرة الكيان الإسرائيلي على استعادة الردع ضدّ أيّ قوّة تهدّده، وتوجيه ضربات في مناطق جغرافية بعيدة.
يراهن الكيان الإسرائيلي إن استهدف اليمن على استمرار دعم وحماية حلفائه الغربيين، وعلى الإفلات من المُساءلة
في الحالات كلّها، يثبت الكيان الإسرائيلي تفوّقه كالعادة من خلال استراتيجية الترويع والانتقام، لا بامتلاكه لمشروعية الدفاع عن مصالحه، باعتباره في الأول والأخير كياناً محتلاً، أي غير شرعي، ومن ثمّ فإنّ استهدافه للحديدة هو انتهاك للقانون الدولي، بتدمير بنى اقتصادية وحيوية وقتل المدنيين بشكل متعمّد، ومن جهة ثانية، ومهما اختلفنا مع أجندة جماعة الحوثي ومع استثمارها الحرب في غزّة، فإنّ استهداف أيّ دولة أجنبية اليمن، وتحت أيّ مسمى كان، هو عدوان على اليمنيين وعلى سيادة أراضيهم، ناهيك بأن يكون عدوان كيان مُحتّل كإسرائيل، يستوجب الإدانة والتجريم. في المقابل، فإنّ الكيان الإسرائيلي وإن امتلك التفوّق العسكري فذلك لا يعني قدرته على تحقيق مستوى من الردع، إذ إنّه وإن ألحق خسائرَ بسلطة الجماعة باستهداف البنى الاقتصادية في مدينة الحديدة، فإنّ سياسته التصعيدية، واستمرار حربه في قطاع غزّة، لا تحقّق استراتيجية الردع، بل تدفع بالصراع في المنطقة إلى مستوى خطير جرّاء استمرار حربه في قطاع غزّة، ومن ثمّ تصعيد في جميع الجبهات المُساندة للمقاومة في القطاع، ومنها جبهة البحر الأحمر، وتنفيذ الجماعة هجمات في العمق الإسرائيلي، آخرها، وبعد ساعات من استهداف الكيان الإسرائيلي مدينة الحديدة، عملية نفّذتها الجماعة استهدفت ميناء إيلات في البحر الأحمر، إضافة إلى أنّ الجماعة أعلنت سابقاً الانتقال إلى المرحلة الخامسة في حربها ضدّ الكيان الإسرائيلي، بوضع مدينة يافا هدفاً عسكرياً جديداً، واستمرار عملياتها ضدّ السفن التجارية في الممرّات المائية حتّى وقف الكيان الإسرائيلي حربه على قطاع غزّة.
ومن جهة ثانية، إعلان الكيان الإسرائيلي بعد عملية الحديدة بقاء خيار استهداف اليمن في حال قامت الجماعة بهجمات تطاول عمقها، يعني فتح جبهة جديدة على إسرائيل. وبعيداً عن مستقبل المواجهة بين الجماعة وإسرائيل وعن قدرة الجماعة على تنفيذ هجمات في العُمق الإسرائيلي، فإنّه ليس لدى الجماعة، ولأسباب كثيرة، ما تخسره في خوض حربها ضدّ إسرائيل بخلاف الكيان الإسرائيلي الذي يقاتل في جبهات كثيرة، ولا يمتلك غير مشروعية الاحتلال والقوّة، ومن ثمّ فإنّه وإن استهدف اليمن، الآن أو في المستقبل، يراهن على استمرار دعم وحماية حلفائه الغربيين لخوض حربه، وأيضاً على الإفلات من المُساءلة.