عن الحرب والأخلاق بين دولة الاحتلال والمقاومة
وسط حرب الإبادة والتهجير والتدمير التي تشنّها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، تمكّنت المقاومة الفلسطينية، ممثلة بكتائب عز الدين القسام التابعة لحركة حماس، من تسجيل نقاط قِيَمِيّة وإنسانية أكدت تفوّق المقاومة الأخلاقي على آلة الحرب الإسرائيلية، وعلى كل من يدير هذه الآلة ويغذّيها من الساسة والجنرالات الذين طالما تبجّحوا بأن الجيش الإسرائيلي هو الأكثر أخلاقية بين جيوش العالم.
لا يحتاج الإنسان الَسوِيّ إلى براهينَ لإثبات أن الاحتلال هو واقع لاأخلاقي منكرٌ وبغيض، ويمثل شرّا مطلقا تتفرع عنه شرورٌ وانحرافاتٌ أخلاقيّة لا حصرَ لها. وأن النضال من أجل الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية قيمٌ سامية ونبيلة تمثل ذروة الانحياز الأخلاقي من أي إنسان لقيم الخير والعدل والجمال. ولكن الحاجة، في عصر كهذا الذي نعيشه حيث تسيطر الاحتكارات الكبرى لصناعة السلاح والنفط، على حياة الناس وعلى وسائل الإعلام وسائر أدوات صناعة الوعي والرأي العام، تظل (الحاجة) قائمة وملحّة لتفنيد دعاية الاحتلال وكشف أباطيله، حنى لو كان الأمر مفهوما ضمنا بالنسبة لضحايا الاحتلال المباشرين.
ظهرت اللمسات الإنسانية للمقاومة في عدة مواقف سطعت وسط الدمار والموت والركام، على الرغم من المحاولات الإسرائيلية المحمومة لحجبها عن الداخل الإسرائيلي وعن أنظار العالم. ظهرت أولها في الشهادة العفوية التي أدلت بها السيدة الإسرائيلية المسنة يوخاباد ليفشيتس (85 عاما)، وهي من سكان مستوطنة نير عوز المحاذية لقطاع غزّة، والتي أفرجت عنها المقاومة من دون مقابل. حيث قالت ليفشيتس إن عناصر المقاومة تعاملوا مع الأسيرات بودّ وعناية، ووفّروا لهن العلاج وسائر الاحتياجات الإنسانية، بما في ذلك تخصيص المقاومة فتياتٍ لمتابعة شؤونهن المختلفة، وهؤلاء الفتيات (عرفناهن لاحقا باسم القسّاميات) كنّ على دراية تامة بأدق الاحتياجات النسائية للأسيرات.
طالما تسيطر الاحتكارات الكبرى لصناعة السلاح والنفط على حياة الناس ووسائل الإعلام وسائر أدوات صناعة الوعي والرأي العام، تظل "الحاجة" قائمة وملحّة لتفنيد دعاية الاحتلال وأباطيله
هذه الصورة التي نقلتها الأسيرة الإسرائيلية، وأدلت بها من المشفى الذي نقلت إليه، أطارت صواب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وصدمت فريق المسؤولين السياسيين والعسكرييين، الذين سارعوا إلى إصدار تعليماتٍ صارمةٍ يمنع فيها اي أسير محرّر في المستقبل من اللقاء مع وسائل الإعلام والإدلاء بأي تصريح قبل عرضه على فريق طبي وتأهيله نفسيا قبل السماح له بالحديث. ووصف نتنياهو تصريحات الأسيرة بأنها دعاية قاسية ووحشية من "حماس"، فيما انهالت الانتقادات على الأسيرة وعلى الطاقم الطبي الذي سمح لها بالحديث، ما دعا أبناءها لعقد مؤتمر صحافي للدفاع عنها والقول إنها تتحدّث بحقائقَ من وحي تجربتها الخاصة هي، وأنها ليست موظفة لدى الحكومة.
سبقت هذه الصورة شهادات متفرّقة لنساء ورجال التقوا عناصر المقاومة في منطقة غلاف غزة يوم 7 أكتوبر. وأكّدت معظم الشهادات أن عناصر المقاومة تعاملوا بشكل إنساني مع المدنيين الإسرائيليين، وبخاصة مع النساء والأطفال، فقد ذكرت مستوطنة تدعى روتِم أنها ناشدت فدائيين اقتحموا بيتها لحماية طفليها، فأجابوها بالعبارة التي أذهلتها "نحن مسلمون لا نقتل النساء والأطفال ولن نؤذيكم". وزادت على ذلك أن أحد المقاتلين الفلسطينيين طلب منها بأدب جمّ أن يتناول موزة كانت على الطاولة. وتكرّرت هذه القيم في شهادة مشابهة أدلت بها شابة إسرائيلية تدعى أفيتال أسرها المقاومون مع طفليها واقتادوهم إلى غزّة، لكنهم سرعان ما أخلوا سبيلها حين شخصوا أن أحد طفليْها كان مصابا، وأمّنوا وصولها بسلام إلى ما بعد الحدود التي تفصل قطاع غزّة عن المناطق المحتلة عام 1948.
الشهادات القليلة، التي تسرّبت عن تعامل المقاومة مع الأسرى، وتترجم تعليمات محمد الضيف، تمثل تطبيقاً أميناً للقيم الدينية والوطنية بشأن التعامل الإنساني مع الأسرى
تكرّرت الإشارات الدالّة على السُمُوِّ الأخلاقي للمقاومة خلال دفعات الإفراج عن الأسيرات النساء والأطفال والشهادات المحدودة جدا التي تسرّبت عنهم، وعبر الصور التي بثتها المقاومة، وأظهرت وداعا "حميما" بين الأسرى وعناصر المقاومة. وفي المقابل، وعبر شهادات كثيرة موثقة ومتشابهة، انتشرت أخبار القمع الهمجي الذي تعرّضت له الأسيرات الفلسطينيات والأسرى الأطفال المفرج عنهم الذين تعرّض معظمهم للضرب والتنكيل والحرمان من الملابس الدافئة، حتى خلال الساعات والدقائق التي سبقت الإفراج، بل عمدت قوات الاحتلال إلى منع أية مظاهر للاحتفال بالإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في المناطق التي تخضع لسيطرتها، وخصوصا في القدس. كما تسرّبت أفلام وأشرطة فيديو أخرى، صوّرها جنود بواسطة هواتفهم على الأغلب، تصوّر عمليات التعذيب والتنكيل الفظيعة التي ارتكبها الجنود والمستوطنون ضد عمّال فلسطينيين من قطاع غزّة علقوا في منطقة الاشتباكات ولم يتمكّنوا من العودة، ولم تحرّك الحكومة الإسرائيلية ساكنا إزاء تسريب هذه اللقطات في أجواء الهستيريا والهَوَس التي تسود إسرائيل، ودعوات الانتقام من جميع الفلسطينيين، من دون تمييز بين مقاتل ومدني، ولا بين الكبار والأطفال.
كانت صفقة تبادل الأسرى والهدنة المؤقتة مناسبة لطرح وإثارة السؤال الكبير: لماذا تحتفظ إسرائيل في سجونها بهذا العدد الكبير من الأسرى الأطفال، وبعضهم محكوم بأحكام عالية، مع العلم أن إسرائيل وقّعت في العام 1991 على الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي تحظر محاكمة الأطفال دون سن المسؤولية الجزائية كما يحاكم الراشدون؟ ولماذا تواصل إسرائيل اعتقال آلاف الفلسطينيين، ومن بينهم أسرى مضى على اعتقالهم أكثر من 40 عاما، فحطّموا بذلك أرقاما قياسية عالمية، أي أنهم مسجونون قبل بدء مسيرة المفاوضات واتفاقات أوسلو بسنين طويلة. ولم تفلح كل جولات المفاوضات ومسيرة التسوية والتنسيق الأمني في إطلاق سراحهم؟
كانت اتفاقيات تبادل الأسرى التي أبرمتها المقاومة مع إسرائيل عبر وساطة قطرية فرصة أمام العالم ليكتشف أن إسرائيل تواصل اعتقال أكثر من 1200 فلسطيني اعتقالا إداريا من دون تهمة ومن دون بينات أو أدلة. وهؤلاء المعتقلون يجري احتجازهم وتوقيفهم من دون عرضهم على قضاة أو محاكم، بل بقرارات من ضباط مخابرات يملكون صلاحيات الادّعاء العام، ويجري إضفاء طابع رسمي على اعتقالهم بتوقيع شكلي من وزير الدفاع.
لماذا تحتفظ إسرائيل في سجونها بهذا العدد الكبير من الأسرى الأطفال، وبعضهم محكوم بأحكام عالية؟
الشهادات القليلة، ولكن الدالّة والمؤثرة، التي تسرّبت عن تعامل المقاومة مع الأسرى، والتي تترجم تعليمات قائد المقاومة، محمد الضيف، وتمثل تطبيقا أمينا للقيم الدينية والوطنية بشأن التعامل الإنساني مع الأسرى، ساهمت في نسف الرواية الإسرائيلية التي حاولت شيطنة المقاومة و"دعشنة" حركة حماس، لتبرير حرب الإبادة والتهجير والتدمير التي شنتها إسرائيل مدعومة من عواصم الغرب بحجّة "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها". لفّقت إسرائيل مجموعة من الأكاذيب عن قطع الرؤوس وذبح الأطفال واغتصاب النساء لتبرير روايتها، وهي ادّعاءات لم تصمد يوما واحدا أمام سيل الأدلة المعاكسة. ولكن الدوائر الغربية، وبخاصة الأميركية، سارعت إلى تصديقها، وانطلى ذلك أيضا على وسائل إعلام عالمية خالفت حياديتها وموضوعيتها وأصولها المهنية وصدّقت الرواية الإسرائيلية وتبنّتها من دون تحقق أو تدقيق. ولكن مع مواصلة العمليات الحربية والاستهداف المقصود للمدنيين والمرافق العامة وبخاصة للمستشفيات والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس، تكشفت الفظائع الإسرائيلية، وتبين كُنْهُ "الأخلاق" التي تدّعيها إسرائيل وتنسبها لجيشها، ويريد الغرب أن يصدقها رغم أنف الحقيقة.
من الأمور ذات الدلالة القوية في دحض الرواية الإسرائيلية، محاولات إسرائيل الدائمة لتصوير "حماس" وكأنها عصابة، تتخفى في مخابئ تحت المستشفيات، وتستخدم المدنيين دروعا بشرية، ويبحث قادتها عن وسائل وصفقات للنجاة بأنفسهم. لكن أداء "حماس" التفاوضي كشف عن قيادة صبورة وحصيفة، مطالبها هي مطالب شعبها بالتركيز على الإفراج عن الأسيرات والأسرى الأطفال، وبالمناسبة غالبيتهم الساحقة من الضفة الغربية وليسوا من قطاع غزّة، ثم مطلب تبييض السجون والإفراج عن جميع الأسرى. ولذلك لا عجب أن يتحول كل من أبو عبيدة ومحمد الضيف إلى أيقونتين، ومثالين ملهمين لملايين الشبان والأطفال العرب. لذلك كله، من المؤكّد أن أداء الحركة السياسي والتفاوضي ساهم في زيادة شعبيتها واحترامها، وكرّسها طرفا مركزيا يستحيل القضاء عليه أو اجتثاثه، كما تحاول حكومة إسرائيل وجيشها وفق الأهداف المعلنة، وكان أول من تنبّه لهذه الحقيقة رئيس الوزراء الأسبق، إيهود باراك، الذي أكد استحالة القضاء على "حماس" لأنها "تعيش في عقول الناس ووجدانهم" كما قال. وباراك هذا الذي خدم وزير دفاع ورئيس أركان الجيش وقائد سرية الأركان "سيرت متكال" هو من ألمع قادة إسرائيل العسكريين وكان يلقب بالجندي رقم 1، وهو الذي أقرّ، في سياق مناكفته نتنياهو، أن الأنفاق تحت مستشفى الشفاء في مدينة غزّة أنشئت لدى توسعة المستشفى في السبعينات، حين كان القطاع يخضع لإدارة الاحتلال المباشرة، مفندا بذلك الأكاذيب الإسرائيلية من أساسها إلى الدرجة التي دعت سياسيين وصحافيين إسرائيليين إلى محاكمة باراك بوصفه خائنا!