عن التنكيل الجبائي بالتونسيين

13 يناير 2023

محامون تونسيون يحتجون أمام قصر العدل في العاصمة ضد قانون المالية الجديد (5/1/2023/Getty)

+ الخط -

ليس من باب المصادفة في تونس أن تجتمع كلّ قوى المجتمع المدني والسياسي والاتصالي، المعارضة لسلطة 25 جويلية (يوليو/ تموز 2021)، والمساندة لها (على قلّتها)، على رفض المرسوم الرئاسي عدد 79 المتعلق بقانون المالية لسنة 2023 الصادر بالجريدة الرسمية التونسية (الرائد الرسمي) بتاريخ 22 ديسمبر/ كانون الأول 2022 في 168 صفحة. علاوة على أن هذا القانون يرسم ملامح موازنة مسقطة، خالية من البصمة التاريخية للدولة الاجتماعية الراعية، فاقدة التشاركية، يعوزها شرح الأسباب كأي نصّ قانوني، وتنتفي عنها المشاركة من أيٍّ كان في تحديد ملامحها وأرقامها ورسم خطوطها واتجاهاتها، من المنظمات الوطنية والجمعيات المدنية والاتحادات المهنية والغرف القطاعية والأحزاب السياسية، وحتى من التنسيقيات الرئاسية وجماعاتها السرّية التفسيرية، إلا من الرئيس قيس سعيّد وحكومته، ولم ينل هذا القانون حظّه من النقاش العام في وسائل الإعلام والاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات الشعبية والمنابر النقابية والفكرية والسياسية والأكاديمية القانونية والمالية والاقتصادية، كما الأمر عشر سنوات متتالية (2011 - 2021)، فإن الكتمان المطلق المصاحب لوضع فصول التشريع الجديد، وما تضمّنه من تعليمات الرئيس سعيّد التي طبعت روحه وفحواه والتداول الحكومي في تفاصيله وجزئياته المالية، المشمولة بالسرّية التامة، وكأن المسألة تتعلق بوثيقة استعلامية أو بسرّ من أسرار الدولة الأمنية والعسكرية، أعطى الانطباع بوجود أمرٍ قد دُبّر بليل، سماته العقاب الاقتصادي والإنهاك الضريبي والدسائس المالية والحيل الجبائية، التي تكمن فيها مصلحة "شعب قاصر"، لا يعلمها ويقدّرها حقّ قدرها إلّا "وليّ أمره" الرئيس وفريقه الحاكم من حكومة ومستشارين، صاحب الولاية على جميع أمور الدولة والمجتمع.

لهذه السريّة المطلقة مسوّغاتها التي اقتضتها أوهام الحاكمين، في زمن الحقّ القانوني في النفاذ إلى المعلومة، إذ تفضح الأرقام التي لا تنطق عن الهوى، ما يُكتَم من حقائق، وما يُخفى من إمعان في التنكيل الجبائي بالشعب ومختلف طبقاته وفئاته، مهما كان موقعها في سلّم التراتب الاجتماعي ومستويات دخل الأفراد وحجم معاملات الشركات. تشي الأرقام الواردة بقانون المالية بأن موازنة الدولة التونسية لسنة 2023 ناهزت عن 70 مليار دينار (69914 مليون دينار) بقيمة 23 مليار دولار، بعد أن كانت في السنة المنقضية في حدود 60 مليار دينار فقط، تحتل فيها المداخيل الجبائية المرتبة العليا بـ 40.536 مليار دينار، تتلوها في الترتيب القروض المقدّرة بـ 24.392 مليار دينار منها 14.859 مليار دينار سيكون مصدرها الاقتراض الخارجي، و9.533 مليارات دينار من الاقتراض الداخلي، وتحتلّ المرتبة الثالثة المداخيل غير الجبائية بـ 5.534 مليارات دينار والهبات بـ 354 مليون دينار. لم تظفر برامج التدخلات التنموية إلا بما قدره 4.397 مليارات دينار من الموازنة، ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لنفقات الاستثمار بـ 4.692 مليارات دينار، في حين يبلغ تأجير أعوان (موظفي) الدولة وعددهم 658911 عوناً 22.772 مليار دينار من النفقات العامة للدولة المحددة بـ 53.921 مليار دينار، ويصل أصل الدين المطلوب تسديده سنة 2023 إلى 15.793 مليار دينار، مع عجز في الموازنة حُدد بـ 7.497 مليارات دينار.

دخلت الحكومة التونسية سنة 2023 من دون أن تكون قادرة على إغلاق الموازنة التكميلية لسنة 2022 بعجز لا يقل عن 10 مليارات دينار، ونقص في احتياطي الخزينة قدره 902 مليون دينار، وتراجع من صندوق النقد الدولي عن اتفاق الخبراء بمنح الدولة التونسية قرضاً قدره 1.9 مليار دولار ينقسم إلى عدّة أقساط على أمل فتح أبواب الاقتراض الخارجي الموصدة دولياً، وفشل الرئيس قيس سعيّد في تعبئة موارد مالية للدولة في شكل ودائع وهبات وقروض كانت منتظرة من مشاركته في القمة الصينية - العربية بالرياض، ولقاءاته مع الرئيس الصيني وولي العهد السعودي، والقمة الأميركية - الأفريقية بواشنطن، في الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، ويضاف إلى كل ذلك الآثار السلبية على الاقتصاد التونسي المتأتية من جائحة كوفيد 19 والحرب الروسية - الأوكرانية.

الوضع الاقتصادي الحرج الذي لم تعرف تونس مثيلاً له منذ 1984، ينذر بالانهيار على خلفية ضعف نسبة النمو في أثناء السنة المنقضية بـ 2.2% والمرتقبة لسنة 2023 بـ 1.8%

في مواجهة هذه العوامل الهيكلية الداخلية والخارجية، اختارت الحكومة التونسية وضع قانونٍ أساساته الرئيسية الجباية ومزيد من الجباية، حتى صحّ القول إن الدولة التونسية هي جمهورية المجبى، وشبّهها بعضهم بإيالة المجبى التي ثار ضدها التونسيون فيما يعرف بثورة علي بن غذاهم سنة 1864 زمن حكم محمد الصادق باي الذي أدّت سياساته المالية إلى إفلاس تونس واحتلالها من فرنسا سنة 1881، خصوصاً أنّ المداخيل الجبائية في سنة 2023 ستصل إلى 68% من حجم مداخيل الدولة.

شملت مقاربة الحكومة الجبائية إحداث إتاوات ضريبية عديدة والترفيع في أخرى، منها الرفع في الأداء على القيمة المضافة من 13% إلى 19% بالنسبة لأغلب القطاعات، بما في ذلك مصحّات وطب التجميل، بعد أن كانت في حدود 7%، من دون منع الزيادة في أسعار السلع والخدمات، والترفيع في نسبة المساهمة الاجتماعية التضامنية بأربع نقاط على الشركات التي كانت تخضع لأداء قدره 35%، وفي قيمة الخطايا على التصاريح الجبائية المتأخرة من 0.5 إلى خمس نقاط، وفي الخطية على التداول المالي نقداً لمبالغ تساوي أو تتجاوز خمسة آلاف دينار بـ20% من المبلغ المتداول، وبألفي دينار أدنى مبلغ. وفي معلوم الطابع الجبائي المستخدم على الفواتير وشهادات توقيف العمل بالأداء على القيمة المضافة والمعاليم (التعرفات) الأخرى الموظفة على رقم المعاملات وأذون طلبات التزوّد في مختلف الوثائق القانونية والمالية ضخمة العدد، من 600 مليم إلى دينار واحد، وإحداث أداءٍ جديد تسمّى الضريبة على الثروة بـ 0.5% على كلّ العقارات التي تساوي أو تفوق ثلاثة ملايين دينار مع استثناء المسكن الأول ومقرّات العمل.

لم تتأخّر الحكومة في الاستجابة لتعليمات صندوق النقد الدولي التي تصفها الوثائق الحكومية بـ "برنامج الإصلاح الشامل لمنظومة الدعم"، وذلك بالتخلي التدريجي عن صندوق الدعم والتخفيض في المبلغ المالي المرصود له بما يناهز عن الثلث من 11.999 مليار دينار سنة 2022 إلى 8.832 مليارات دينار سنة 2023، وقد شمل المحروقات والكهرباء بدرجة أولى ليُخفّض من 7.628 إلى 5.669 مليارات دينار، وبدرجة ثانية المواد الأساسية من 3.771 إلى 2.523 مليار دينار. سيكون لهذا التخفيض تأثير مباشر شديد السلبية على المواطن التونسي وقدراته الشرائية، فالسوق هو من يحدّد أسعار بعض أنواع المحروقات بصفة آلية، والأخرى بما في ذلك الكهرباء والغاز الطبيعي ستراجعها الحكومة دورياً. ستؤدّي هذه الوصفات إلى سحب أكبر قدر من الطبقات المتوسطة، وإلحاقها بالطبقات الفقيرة والمعدمة اجتماعياً الذي يقتات بعضها من المزابل، ولن يفلح برنامج الحكومة الحامل شعار تقديم الدعم إلى مستحقّيه من خلال تسجيل ثمانية ملايين تونسي بالمنصّة الإلكترونية المخصصة لذلك من رئاسة الحكومة التونسية، فقد قدّر الخبراء نصيب الفرد الواحد بخمسة دنانير في الشهر، ما جعل من هذا البرنامج الحكومي مدعاة للتندّر الشعبي والسخرية في وسائل الإعلام والاتصال.

دخلت الحكومة التونسية سنة 2023 من دون أن تكون قادرة على إغلاق الموازنة التكميلية لسنة 2022 بعجز لا يقل عن 10 مليارات دينار

ازداد هذا الوضع تعقيداً بتجاوز نسبة التضخّم 10% والتراجع المستمر لقيمة الدينار أمام اليورو والدولار، والانخفاض في احتياطي العملة الصعبة في البنك المركزي التونسي بأقل من مائة يوم توريد والعجز في الميزان التجاري الذي بلغت قيمته خلال الأشهر 11 الأولى من سنة 2022 مستوى 23.281 مليار دينار بارتفاع يتجاوز 62% مقارنة بسنة 2021. وفي مواجهة هذا الوضع الاقتصادي الحرج الذي لم تعرف تونس مثيلاً له منذ 1984، المنذر بالانهيار على خلفية ضعف نسبة النمو في أثناء السنة المنقضية بـ 2.2% والمرتقبة لسنة 2023 بـ 1.8%، حسب تقديرات قانون المالية الجديد، لجأ محافظ البنك المركزي التونسي إلى الترفيع في نسبة الفائدة المديرية بـ 0.75 نقطة لتبلغ 8%، وتعدّ هذه النسبة من الأعلى في العالم، وهي، في الوقت نفسه، عنوان عرقلة الإنتاج والاستثمار وبعث المشاريع وإيجاد الثروة، وإثقال كاهل الأفراد والمؤسسات الاقتصادية وغير الاقتصادية بفوائد مالية إضافية على قروض تمتعوا بها بنسب فائدة متغيرة في حين كان إقراض البنك المركزي للبنوك بنسب فائدة ثابتة، ما مكنّها من أرباح ناهزت عن أربعة مليارات دينار في أثناء النصف الأول من سنة 2022، في زمنٍ باتت فيه الدولة مهدّدة بالإفلاس وغير بعيدة عن نادي باريس.

اللافت في موازنة سنة 2023، بعد كل هذه المصفوفة المالية والاقتصادية والجبائية السوداوية المضادّة للنمو والتطور الاقتصاديين والعدل الاجتماعي، هو منح الشركات الأهلية التي نظّر لها قيّس سعيد دون سواه، ووضع لها مرسوماً خاصاً، ولم تحظ بالقبول من رجال الاقتصاد والمختصين في علومه، لطوباويتها، 20 مليون دينار، ستكون الزبونية والولاء مقياس صرفها، بينما جرى حرمان العاطلين عن العمل، وعددهم يفوق 600 ألف بنسبة تتجاوز 15% من مراكز مالية، تذكر مع استثناءات بسيطة، قدّرت بـ 8398 مركزاً خُصّص أغلبها للقطاعات الحساسة. ولم تفرد الموازنة أي مبلغ للغرفة البرلمانية الثانية المكنّاة المجلس الوطني للجهات، وهذا يحول دون تقديم لائحة لوم ضد الحكومة بسبب غياب الشرط الدستوري في إمضاء تلك اللائحة من نصف أعضاء المجلسين (النواب والجهات) مجتمعين، وسحب الثقة منها بالثلثين، خصوصاً بعد أن تأكد فشلها وعجزها على إنقاذ البلاد من أزمتها المالية القاتلة والمصير المجهول الذي ينتظرها. وينطبق الأمر نفسه على المحكمة الدستورية التي لم يخصّها قانون المالية بموازنة تمكّن من بعثها، ما يعني عدم إنشاء المؤسّسة الدستورية، وهي التي حدّد شروط الانتماء إليها ووظائفها سعيّد نفسه في دستور 2022، القادرة على النظر في مدى دستورية المراسيم الرئاسية وغيرها من النصوص القانونية ومراقبة رئيس الجمهورية دستورياً ومعاينة العجز عن تسيير شؤون البلاد أو الشغور في المنصب الناتج عن المرض أو الموت أو الإزاحة الشعبية، وتولي رئيسها المنصب الشاغر كما هو منصوص عليه في دستور الرئيس.