حركة الشعب التونسية... من الموالاة السياسية إلى المنافسة الرئاسية
أعلنت حركة الشعب في تونس (حزب قومي عربي ناصري عقد ثلاثة مؤتمرات، الأول سنة 2012؛ مؤتمر التيار القومي التقدّمي الموحد، والثاني سنة 2017، والثالث سنة 2022)، يوم 17 يوليو/ تمّوز الجاري، ترشيح أمينها العام زهير المغزاوي لخوض الانتخابات الرئاسية المُزمَع إجراؤها في 6 أكتوبر/ تشرين الأول المُقبل. القرار، وإن كان مشروعاً من الناحية السياسية ومن ناحية حقّ المشاركة في الحياة العامة والتداول السلمي على السلطة، يطرح إشكالاتٍ تتعلّق بأنطولوجيا السياسة. ذلك أنّ الحركة، الأكثر تمثيلاً للتنظيمات ولأحزاب القومية العربية (التونسية)، ستتبارى في هذه الانتخابات مع الرئيس التونسي قيّس سعيّد، وهي من إجراءات 25 يوليو (2021)، فلم ترَ مانعاً في إغلاق البرلمان ومركز الحكم في القصبة، ومنحته ثقتها المُطلقة، وبشّرت بمشروعه السياسي، واندمجت فيه حدّ الذوبان أحياناً، فبلغ تأييدُها له في ردهاتٍ كثيرةٍ من السنوات الثلاث المنقضية درجة الموالاة العمياء، وتولي مهمّة تفسير خطابات الرئيس وأقواله المُتّسمة بالعمومية والإبهام أحياناً كثيرة، ثم استحالت تلك الموالاة مساندةً نقديةً ومعارضةً من داخل المنظومة، من دون اكتساب صفة المُعارَضة، مشكّلةً لدى بعض قيادات الحركة حالة عاطفية تتجاوز الإعجاب، وترتقي إلى مستوى الحبّ والهيام.
المُعارّضة في مقاربة الرئيس سعيّد بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، ودوره هو تنقية الحياة السياسية من الضلالة، وتطهيرها من الضالّين
تأسيس للاستبداد
هذا ما تؤكّده بيانات الحركة وبلاغاتها وتصريحات قادتها الإعلامية، والمكانة التي يحظى بها سعيّد لدى مُنخرطيها. ويتجلى الأمر كذلك في تدويناتهم الفيسبوكية ومنتدياتهم السياسية ومناقشاتهم الحزبية ومشاركاتهم في المحطات الانتخابية، حتّى بلغ الأمر ببعضهم وضع الرجل في مصاف الزعماء القوميين العرب، فهو بالنسبة إليهم جمال عبد الناصر آخر جديد، جادت به هذه المرّة تونس أرض العروبة، بعد أن تبادلت الأدوار مع مصر الكنانة. وقد تدعّم هذا الموقف بتبنّي الرئيس مقولات "التطبيع خيانة عظمى" و"تحرير فلسطين كلّ فلسطين من البحر إلى النهر" بـ"الجماهير العربية مسلحةً ومعبّأةً، وبحرب التحرير الشعبية أسلوباً"، ليفاجأ أبناء الحركة بأنّ تلك المقولات مُجرّد شعارات سقطت في اختبار المصادقة على قانون تجريم التطبيع في مجلس النوّاب الذي اقترحته حركة الشعب، وعطّل سنّه رئيس المجلس إبراهيم بودربالة بأمر من الرئيس سعيّد استجابة لإملاءات أجنبية أميركية، كما تبيّنه الورقة المنشورة حديثاً في موقع معهد واشنطن، بعنوان "تجنب الخطأ الانتخابي في تونس: لماذا يجب أن تركّز السياسة الأميركية على المصالح الحقيقية، وليس على الأصوات؟".
دشّنت حركة الشعب دعمها ما قام به الرئيس سعيّد مساء 25 يوليو 2021، في بيانها الصادر صباح يوم الـ26 من الشهر نفسه، وقد تضمّن في نقطته الثانية "مساندتها القرارات التي أصدرها رئيس الجمهورية، وتعتبرها طريقاً لتصحيح مسار الثورة". كما باركت تطبيق الرئيس التونسي الفصل 80 من دستور 2014، وأيّدت إصدار الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021، وهو تنظيم مُؤقّت للسلطات العمومية، منح سعيّد مُطلق السلطات بعلّة الوضع الاستثنائي، ومكّنه، بعد حلّ الهيئة الوقتية للنظر في دستورية القوانين، من عدم الخضوع لأيّ هيكلٍ من هياكل الرقابة السياسية والدستورية، والتأسيس لدولة الاستبداد من جديد، وهي التي لفظت أنفاسها الأخيرة سنة 2011، وذلك في البيان الذي أصدرته حركة الشعب يوم 26 سبتمبر/ أيلول 2021، وقد جاء فيه "أنّ الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 والمُؤرّخ في 22 سبتمبر 2021، والذي تضمّن إجراءات المرحلة المُقبلة ورسّخ التزام السيد رئيس الدولة بعدم العودة لما قبل 25 جويلية (يوليو) 2021 خطوة أساسية وهامة في اتجاه ترسيخ المسار الإصلاحي".
لم تنخرط حركة الشعب في الاستشارة الشعبية الإلكترونية المُعلن عنها من الرئيس سعيّد التي نُظّمت مطلع سنة 2022، وعرفت إقبالاً ضعيفاً قُدّر بـ5%، لكنّها التزمت بما تلاها من سياسات، وخاصّة إلغاء العمل نهائياً بدستور سنة 2014، وحلّ المؤسّسات الدستورية المُنبثقة عنه، المتمثّلة في البرلمان المُنتخَب سنة 2019 والهيئة العليا المُستقلّة للانتخابات، وتعويضها بأخرى منصبّة تنفّذ أوامر الرئيس وقراراته، والمجلس الأعلى للقضاء المُنتخب وفق قانون 2016، واستبداله بمجلس وقتي، تأتيه الأوامر من قصر قرطاج ووزارة العدل، لا يتمتّع بالاستقلالية والشرعية والمقبولية من القضاة، وبقية مكوّنات العدالة التونسية.
صَنّفت حركة الشعب نفسها طرفاً أصيلاً في منظومة 25 يوليو، وقالت إنّها ستحميها من كلّ من قد ينحرف بها، بمن فيهم سعيّد
منظومة 25 يوليو
صَنّفت الحركة نفسها، ولا تزال، طرفاً أصيلاً في منظومة 25 يوليو، ولاعباً سياسياً رئيساً في إنهاء العشرية (2011 - 2021)، فبالغ قادتها في الدفاع عن تلك المنظومة إلى حدّ القول إنّهم سيحمونها بالوسائل كافّة من كلّ من قد ينحرف بها، بمن في ذلك الرئيس قيّس سعيّد نفسه. لقد غاب عن الحركة حصولها على تأشيرة العمل القانوني في مطلع تلك العشرية، فهي عشرية بناء مجدها السياسي مُترجماً في فوزها بـ15 مقعداً في انتخابات 2019 التشريعية، في حين اقتصر عدد نوابها على ثلاثة في تشريعية 2014، بنموّ قدره 500%، وتشكيل كتلة برلمانية صحبة التيّار الديمقراطي، هي الثانية في المجلس النيابي، والمشاركة في إحدى حكوماتها (حكومة إلياس الفخفاخ)، وهي المرّة الأولى التي يدخل فيها حزب قومي عربي الحكومة التونسية منذ 1956، وهي مكون من مكوّنات مجالسها التأسيسية والتشريعية (2011 -2021)، واستفادت من حرّياتها وانتخاباتها الحرّة، ومن التعددية ولعبتها الديمقراطية، وخاصّة الحرّيات الإعلامية، ما جعل صوتها وموقفها يتمتّعان بحضور دائم في المنابر الإعلامية المكتوبة والمسموعة والمرئية.
وعلى أرضية فكّ الارتباط مع العشرية السابقة والانتساب إلى المرحلة "السعيّديّة"، شارك أمينها العام في ما يُسمّى "الحوار الوطني من أجل الجمهورية الجديدة"، وهو حوار صوري، مقياس المشاركة فيه الدفاع عن سعيّد ومنظومته، والولاء لهما، قاطعه الاتحاد العام التونسي للشغل، وجميع عمداء كلّيات ومعاهد القانون، وانتهى إلى تقديم مقترح دستور يُعرف بـ"دستور بلعيد"، من دون أن تطّلع عليه الحركة، وأُلقي به في سلّة المُهملات، واستبدل به سعيّد دستوراً ثانياً في نسختَين مختلفتَين، تضمّنت الأولى 30 خطأً، وافقت حركة الشعب على كليهما، بعد أن شاركت في استفتاء 25 يوليو 2022، الذي أعطى الشرعية لدستورٍ وضعَ الرئيسَ خارج دوائر المُراقبة والمتابعة والمحاسبة، وأسّس للحكم المُطلق، وكرّس سلطة الفرد، ونزع عن السلطتَين التشريعية والقضائية استقلاليتهما وحوّلهما إلى وظيفتَين من وظائف رئيس الجمهورية، ناسفاً إرثاً من الحرّيات الدستورية والسياسية راكمته النُخَب التونسية خلال ما يزيد عن قرن ونصف قرن، ما جعله عنوانَ أزمةِ مشروعيّةٍ شعبيةٍ، إذ لم يصوّت لدستور 25 يوليو سوى 30% من الجسم الانتخابي التونسي، بعد أن اعترضت عليه الأغلبية الساحقة من مُكوّنات المجتمع المدني والسياسي، بينما تقتضي المعايير الدولية تصويت ما يزيد عن 50%.
حركة بلا هُويّة
شاركت حركة الشعب في الانتخابات التشريعية نهاية سنة 2022، وفازت بـ11 مقعداً من مقاعد البرلمان وعددها 161، لكنّها لم تجد لنفسها هُويّة سياسية، فبقي نوّابها يتراوحون بين الولاء للرئيس وسياسات حكومتيه (نجلاء بودن وأحمد الحشاني)، وتشريعاته التي يتقدّم بها دورياً، أغلبها قوانين تتعلّق بقروض للمصادقة عليها، من دون أن يكون للحركة دور مباشر أو غير مباشر، رئيسي أو ثانوي، في وضع تلك السياسات والتشريعات، مع تحمّل أوزار فشلها الظاهر. ولم تتمكّن من لعب دور المُعارّضة البرلمانية، بعد أن حجب دستور 25 يوليو تلك الصفة من سجلّ مُصطلحاته، فالمُعارّضة في مقاربة الرئيس سعيّد هي بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، ودوره هو تنقية الحياة السياسية من الضلالة، وتطهيرها من الضالّين (المُعارِضين) الذين كانت تعجّ بهم تونس في أزمنة الرئيسيَن الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وأثناء "العشرية السوداء"، عشرية الثورة الديمقراطية التونسية، وحركة الشعب والتيّار القومي التقدّمي من أولئك المُعارِضين، ويأبون الاندثار في زمن حكم سعيّد.
تركت الحركة حرّية المبادرة لعناصرها في الانتخابات المحلّية التي أفضت إلى تشكيل الغرفة الثانية، أو ما بات يعرف بالمجلس الوطني للجهات والأقاليم، المُكوَّن من 77 مقعداً، وهو الصيغة المُثلى لفكرة البناء القاعدي السعيّدية، ورغم مشاركة كثيرين من أبناء الحركة، وفوز بعضهم على مستوى الدوائر المحلّية، فلا أحد منهم استطاع الفوز بمقعد من مقاعد المجلس الوطني.
تعتقد جمهرة من قيادات حركة الشعب ومنخرطيها أنّ الرئيس قيّس سعيّد حقّق للحركة، ومن يشبهها من التنظيمات الأيديولوجية القومية واليسارية، مَطلَب إزاحة حركة النهضة "الإخوانية" من كرسي الحُكْم. وهذا الأمر كافٍ ليُغفر للرئيس سعيّد الخطيئة الأساسية في وأد الديمقراطية التونسية ووصمها بالسواد، والعودة بالبلاد، وبتشريعاتها الكُبرى، ومواثيقها المُجمَع عليها، إلى عصور خلت، الشعب فيها مُجرّد رعية، والحاكم هو ولي أمرها، والعصا الغليظة كفيلة بأن تُدخِل بيت الطاعة كلّ من تحدّثه نفسه عن الحقّ في السلطة أو معارضة جهة الحكم راديكالياً، سياسياً وإعلامياً. فلا لوم ولا تثريب على الرئيس، رغم أنّه لم يستجب لمطالب حركة الشعب في تأجيل الانتخابات المحلّية مثلاً، أو لعدم تشكيله حكومة سياسية بدلاً من حكومة الإدارة، أداة الرئيس في الحكم والتسيير، الفاقدة برنامجَ حكم واضحاً، التي تتولّى شأن البلاد من دون وجه حقّ، ومن نتائجها التسميات العشوائية غير المدروسة، وفشل الوزراء والولاة الذريع، والإعفاءات المتتالية، أو بسبب قبر قانون تجريم التطبيع والمبادرة التشريعية لتنقيح المرسوم 54، القامع حرّيات التعبير والرأي والإعلام والتدوين، المُقترحَين من كتلة الحركة في البرلمان، رغم استشراء ظاهرة التطبيع في تونس، واتساع عدد ضحايا المرسوم 54 من المساجين، وتدجين الحياة السياسية والفضاء العام، وتمكين الرئيس وحكومته من الهيمنة على هذا الفضاء بصورة مطلقة.
ديكور ديمقراطي
جاء ترشّح الأمين العام لحركة الشعب لمنصب رئيس الجمهورية، لمنافسة الرئيس الحالي قيّس سعيّد، الذي أعلن ترشحّه لولاية رئاسية جديد الجمعة في 19 يوليو/ تمّوز 2024 من برج الخضراء، أقصى نقطة في الصحراء التونسية، مُعتقداً أنّه يكسب رأسمالاً رمزياً يفوق أو يساوي رمزية الحبيب بورقيبة، الذي نُفِي مع رفاقه الدستوريين إلى برج البوف سنة 1934. وهو ترشّح يستند إلى أرضية الانتماء إلى "25 يوليو" ثلاث سنوات متتالية، ولكن من دون نقد وتقييم جِدّي من حركة الشعب للتجربة السعيديّة، وما انتهت إليه من شعبوية، وانسداد في أفقها السياسي والاقتصادي، وفشل تامّ في الإصلاح، ذلك أنّ الاستبداد لم يكن في يوم من الأيام عنوان إصلاح وتقدّم وازدهار. وكلّما ظهر صوت عقل على الملأ، من داخل الحركة أو من بين أنصارها، يدعو إلى فكّ الارتباط مع مسار انحرف عن مقاصده الإصلاحية، وفقّر البلاد، وجعل طموح الناس يقتصر على الحصول على رغيف خبز أو علبة حليب في بعض الفترات، وضاق ذرعاً بالصوت المخالف، وبالتعدّد وحقّ التداول السلمي على السلطة والمشاركة السياسية، وبالحرّيات الفردية والجماعية السياسية والإعلامية، وذكّر بوضع "صفر إنجازات"، الذي صاحب المسار الجديد، إلّا من نصوص دستورية وقانونية طوباوية، ومؤسّسات تشريعية صورية لا تمتلك التمثيلية والمشروعية الشعبية، ومشاريع هلامية كالشركات الأهلية، تحوّلت عبئاً على موازنة الدولة التونسية، كلما ظهر هذا الصوت ثار في وجهه الحشد الأكثر ولاءً للرئيس، واتهموه بالأخونة (نسبة إلى الإخوان المسلمين)، والدفاع عمّا يسمونه "العشرية السوداء".
أتيحت لحركة الشعب فرص كثيرة للقطع مع مسار سعيّد والتمايز عنه، لاستهدافه الأجسام الوسيطة الحزبية والمدنية والإعلامية، وكان جديدها أخيراً اعتقال صحافيين وإعلاميين من بينهم برهان بسيس، الذي جعل من برامجه الحوارية الإذاعية والتلفزيونية منابرَ مفتوحةً بصفة دائمة ومتواترة أمام قيادات الحركة للوصول إلى الجمهور الواسع، واقتحام دار المحامي (نقابة المحامين) في مناسبتَين، والقبض على المحاميَّين سنيّة الدهماني ومهدي زقروبة، ولكنّ الحركة لم تكلّف نفسها حتّى التنديد، بل تجاهلت الاقتحام والاعتقال، وما تلاهما من انتفاضة المحامين بجميع أطيافهم وألوانهم، ولم تنطق بكلمة واحدة، واختارت في بيانها الصادر يوم 16 مايو/ أيّار 2024 أن "تدعو السلطة إلى تحمّل مسؤولياتها في التصدّي لكلّ من تسوّل له نفسه التدخّل في الشأن الوطني"، إجابة على إثارة بعض وسائل الإعلام الأجنبية، وأطراف دولية، موضوع الاعتداء على دار المحامي، رغم معرفتها المسبقة والأكيدة بسيادوية ما يرفع من شعارات من السلطة الحاكمة، فلا سيادة في ظلّ الاستعمار المالي الذي تعيشه تونس جرّاء التداين المُتناسِل من حقبة إلى أخرى، ولم يفلح معه رفع سعيّد شعار التعويل على النفس، ولا سيادة كذلك في ظلّ استمرار العمل باتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لسنة 1995، ومذكرة التفاهم مع الولايات المتّحدة لسنة 2015، المتضمّنة فصولاً صريحةً تمكّن من التدخّل في الشأن الوطني التونسي.
أتيحت لحركة الشعب فرص كثيرة للقطع مع مسار سعيّد والتمايز عنه، لاستهدافه الأجسام الوسيطة الحزبية والمدنية والإعلامية
نحو الخروج من جلباب سعيّد
جاء ترشّح الأمين العام لحركة الشعب مفاجئاً ومباغتاً للطبقة السياسية التونسية، فلم يسبق للرجل أن عبّر عن رغبته تصريحاً أو تلميحاً في الترشّح للمنصب الأعلى في الدولة التونسية، ولعلّ مرجع هذا الترشّح هو اليأس من إمكانية إصلاح أوضاع تونس المتردّية من داخل منظومة سعيّد. وإذا ما بلغ هذا الترشّح منتهاه وأُعلن عن قبوله من هيئة الانتخابات وتخطّى عقباتها، سيكون المغزاوي أولَ شخصية قومية عربية ناصرية تترشّح لخوض معركة الانتخابات الرئاسية. وبذلك فهو يثأر للقيادي في الجبهة القومية التقدّمية المُعارِضة، ووريثة الحركة اليوسفية، المسطاردي بن سعيد، وقد تقدّم لسفارة تونس في الجزائر بطلب الترشّح في الانتخابات الرئاسية سنة 1974، لمنافسة الحبيب بورقيبة، من دون أن يُمكَّن من شرف الترشّح والمنافسة.
قوبل ترشّح الأمين العام لحركة الشعب بوصم شديد من معارضيه ومنافسيه، معتبرين أنّ خروجه عن جلباب سعيّد في هذه المحطّة السياسية الهامة لا يخلو من ريبة، وهو أمر غير قابل للتصديق، وأنّ ترشحّه من أجل لعب دور الديكور الديمقراطي والتعدّد المُزيّف، تيمّناً بالوظيفة التي كان يُؤدّيها زعماء أحزاب المعارضة الكرتونية في زمن حكم الرئيس زين العابدين بن علي. وهو ما يستدعي من أمين عام حركة الشعب تسفيه هذا الموقف، الذي يكاد يتحوّل حسّاً مشتركاً لدى الطبقة السياسية والمتابعين للشأن العام التونسي. وهذا الانطباع نمّته التضييقات والمتابعات القضائية التي تطال يومياً مُرشّحين آخرين، يُصنَّفون أكثر جِدّية لمعارضتهم البائنة والمُعلَنة، على غرار رئيس حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري لطفي المرايحي، الذي صدر في حقّه حكم ابتدائي بالسجن ثمانية أشهر، وبالمنع مدى الحياة من حقّ الترشّح، ورئيس حزب العمل والانجاز عبد اللطيف المكّي، الذي صدر في حقّه حكم يُحدّ من تنقّله خارج معتمدية الوردية، التي يقيم فيها، ويمنعه من التصريحات الإعلامية في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي كافّة، فالحكم في لا منطوقه هو منع من القيام بحملة انتخابية، هذا إضافة إلى رفض تمكين رؤساء الأحزاب المسجونين وهم على التوالي: عازي الشواشي، وعصام الشابي، وعبير موسى، من تواكيل إتمام إجراءات الترشّح.
من خلال السجالات والمناقشات، وحتّى المناكفات الدائرة في صفحات التواصل الاجتماعي، لا يبدو أن ترشّح المغزاوي كان محلّ اتفاق مُسبق بين هياكل حركة الشعب ومنخرطيها وأنصارها، ومُؤيّديها من الطيف القومي العربي في تونس، فقد تمسّكت مجموعات عديدة بضرورة البقاء داخل معسكر سعيّد والتصويت له لاستكمال مشروعه. وهذا الأمر يُعسِّر من مهمّة المُرشّح القومي العربي وفريقه الانتخابي، فبدلاً من الانطلاق في التعبئة الانتخابية، وحشد المناصرين للوصول إلى أكبر قدر من الناخبين، واقناعهم بالترشّح، يستنزف المُرشّح طاقاته في نقاشات عقيمة لإقناع ذوي القربى بالالتحاق بمعسكره الانتخابي، وشدّ أزره، وخوض معركته التي ستُحدّد مُستقبله السياسي، ومصير حزبه.
وعلى عكس بعض منافسيه، منهم الرئيس سعيّد، ومنذر الزنايدي، والصافي سعيد، ولطفي المرايحي، وعبد اللطيف المكي، وعبير موسى، وآخرين، لم يستند ترشّح الأمين العام لحركة الشعب إلى أسبار أراء وقياس الرأي العام الانتخابي، ولم يظهر اسمه في تلك الأسبار، وهو ما يجعل من الترشّح مغامرة غير محسوبة العواقب. وتبيّن مصفوفة التحالفات السياسية والانتخابية المُحتمَلة والممكنة كيف أنّ هذا الترشّح محفوف بالمخاطر، بسبب قرار فريق من أبناء حركة الشعب وأنصارها العروبيين والقوميين التصويت لصالح سعيّد، وبسبب فقدان الحركة حلفاء في معركتها المصيرية. فلا يمكن لها التعويل على القاعدة الإسلامية من "نهضة"، وإئتلاف الكرامة، وحزب المُؤتمّر من أجل الجمهورية، ومختلف مُكوّنات جبهة الخلاص الوطني، وكذلك جماعات السلفية العلمية، خاصّة "المداخلة"، وحزب التحرير ومناصريه، لعدائها الشديد للإسلام السياسي، ولتبادل التخوين معه. ويتعذّر عليها بناء تحالفات مع الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية (أحزاب التكتّل من أجل العمل والحرّيات، والجمهوري، والمسار الديمقراطي الاجتماعي) حلفائها التقليدين قبل 25 يوليو (2021)، خاصّة التيّار الديمقراطي، شريكها في الكتلة الديمقراطية، وفي حكومة إلياس الفخّفاخ، فهذه الأحزاب ترى في ما أتاه سعيّد انقلاباً مكتمل الأركان، بينما ترى فيه حركة الشعب تصحيح مسار.
الدستوريون بدورهم لهم خصومة تاريخية مع القوميين، تعود جذورها إلى الصراع البورقيبي – اليوسفي، وعملية قفصة سنة 1980، ناهيك أنّ لهم مُرشّحين من أبرزهم الوزير الأسبق منذر الزنايدي، ولن يستبدلوه بالمغزاوي مهما كانت التحالفات، ومن الأقرب أن يتحالف فريقاً منهم مع الإسلاميين. وفيما يتعلّق باليسار، شريك حركة الشعب في المناسبات الاحتجاجية، والمظاهرات الشوارعية، ونصرة القضية الفلسطينية، فهو مُنقسم إلى قسمين، قسم موال لسعيّد سيمنحه أصواته على محدوديتها، من أبرز تنظيماته حزب الوطنيين الديمقراطيين المُوحّد (فصيل منجي الرحوي)، وحركة تونس إلى الأمام بقيادة عبيد البريكي، وهؤلاء من حلفاء حركة الشعب التقليديين، أما القسم الثاني فيمثّله حزب العمّال بزعامة حمّة الهمامي، وحزب الوطنيين الديمقراطيين المُوحّد (فصيل زياد لخضر)، وهو فريق مقاطع للانتخابات الرئاسية، ورافض للمشروع السياسي لقيّس سعيّد. كما لا تستطيع حركة الشعب التعويل على تنسيقيات سعيّد، التي انخرط فيها عدد غير قليل من الشباب القومي العربي واليساري، ومنحتهم السلطة مناصب إدارية في مؤسّسات الدولة الدنيا والمتوسّطة على غرار الولاة، والمعتمدين، والعُمد، وفي الإدارات العامة في مختلف الوزارات، ولن تكون أصوات هذه الفئة إلّا للرئيس سعيّد.
لعلّ ترشّح زهير المغزاوي للرئاسة التونسية جاء بعد يأس من إمكانية إصلاح أوضاع تونس المتردّية من داخل منظومة سعيّد
خاتمة
في ظلّ تلاشي جبهة 25 يوليو، التي سعت حركة الشعب إلى تشكيلها لدعم الرئيس السعيّد، من دون إعارتها أيّ اهتمام منه، مكوناتها أحزاب سياسية عروبية ويسارية وقوى مدنية، من أكثرها أهمّية الاتحاد العام التونسي للشغل، والهيئة الوطنية للمحامين، والنقابة الوطنية للصحافيين، وإئتلاف صمود، وشخصيات وطنية، واختيار كلّ طائر منهم عشّه الأيديولوجي ومُرشّحه الرئاسي، يغيب عن ترشّح الأمين العام لحركة الشعب من أجل معركة خوض الانتخابات الرئاسية لسنة 2024 أدنى درجات التكافؤ، في وقت هو في أشدّ الحاجة إلى تحقيق نتائج تحفظ مكانة حزبه، وكرامة التيار القومي العربي في تونس، رافعة ذلك الحزب الأساسية. أمّا إذا أدار حملته الانتخابية جيداً، ووصّل صوته إلى أغلب الناخبين، وعوّل على الإقناع وصدق الخطاب، فإمكانه تعويض التحالفات بالدعم الشعبي والجماهيري. وفي كلّ الأحوال سيكون ترشّح حركة الشعب للرئاسيات عنوان معركة الانفصال وفكّ الارتباط مع مسار 25 يوليو، الذي جعل من الحركة القومية العربية التونسية حمّالة أوزار ذلك المسار من دون المشاركة في وضع سياساته واتخاذ قراراته. فهي أقرب إلى أن تكون معركة استرجاع هذه الحركة لذاتها واستقلالية قرارها، وصون كرامتها وإعادة بناء هياكلها، وتقييم مشروعها وأدائها السياسي، وتقديم نقدها الذاتي، كما يفعل شجعان السياسة وعباقرتها بعد كلّ محطّة سياسية مهمّة، والعمل على الوصول إلى السلطة لتنفيذ برامجها، أو أن تأخذ لها مقعداً مُحترماً في صفوف المُعارَضة إذا تعذّر عليها الحكم، وذلك قبل أن يصيبها ما أصاب أحزاب أخرى لفّها النسيان، واستحالت مُجرّد أرقام، أمّا كرسي الرئاسة، رغم عدم استحالة الوصول إليه، فقد لا يبدو أنّه مهيأ لها هذه المرّة.