عن الأزمة المالية ونزاع النفوذ في تونس

27 يونيو 2021
+ الخط -

لم يعد خافياً عن الطبقة السياسية التونسية، بحكامها ومعارضيها، وعلى النخب الفكرية والنقابية والمدنية والإعلامية، والقوى الدولية المؤثرة، المؤشّرات السلبية التي ترتقي إلى درجة الخطر المهدّد لأمن البلاد وسلمها الاجتماعي، على غرار انحدار نسبة النمو من 3% سنة 2010 إلى -8.8% سنة 2020، وارتفاع معدّل البطالة إلى 17.4%، بعد أن كان 13%، وارتفاع التضخم من 3.3% إلى 5.6%، وانخفاض الادّخار إلى 4%، بعد أن كان 21.1%، وتصاعد المديونية إلى 83.5% من الناتج الوطني الخام سنة 2020، في حين أنها كانت في حدود 40.7% سنة 2010.

وحسب الموقع الدولي "دين" الذي يرصد ديون مختلف الدول بواسطة عدّاد إلكتروني يعتمد الثانية الواحدة وحدة قياس، بلغت المديونية التونسية 89.1%، مقتربةً من التساوي مع الناتج الوطني الخام لتونس. وحسب هذا الموقع، فإن ديون تونس سجلت يوم الأحد 23 مايو/ أيار 2021 ما قيمته 103.031.349.464، لترتفع يوم الأحد 21 يونيو/ حزيران إلى 104.097.649.509 بزيادة تفوق مليار دينار في أقل من شهر. ولكي تنخفض هذه المديونية إلى 2.5%، على تونس تسديد مائة مليون دينار على مدى ثلاث سنوات. ومن ضمن 104 مليارات دينار من الديون التونسية، فإن حكومة هشام المشيشي مطالبة بتسديد 16 مليار دينار سنة 2021، واقتراض 18 مليار دينار لسد العجز في ميزانية الدولة التونسية المقدرّة بـ 52 مليار دينار تونسي.

لا يبدو أن هندسة السياسة المالية التونسية وجدت الحلول المعقولة والممكنة لانتشال البلاد من السقوط في الإفلاس

ولا يبدو أن هندسة السياسة المالية التونسية وجدت الحلول المعقولة والممكنة لانتشال البلاد من السقوط في الإفلاس، إذا ما استثنيت المداخل التقليدية، على غرار الخصخصة ومزيد من التداين لدى المؤسسات المالية المُقرضة، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي الذي توجّهت إليه الحكومة التونسية برسالةٍ تقبل فيها جميع شروطه، مثل إلغاء الدعم المقدر بسبعة مليارات دينار في موازنة سنة 2021، وتحرير الخدمات الطاقية والمحروقات وخصخصة المؤسسات العمومية والتقليص من كتلة الأجور المقدرة بـ 20 مليار دينار، بإيجاد صيغةٍ تمكّن من تسريح نسبة من موظفي الدولة، وإيقاف الانتداب بالوظيفة العمومية، في مقابل منحها قرضاً بأربعة مليارات دولار. وتعدّ هذه الاختيارات ترجمةً لما صرّح به وزير الاقتصاد والمالية، علي الكعلي، نهاية سنة 2020، أن المديونية في تونس ليست مخيفة، وأن للدولة من الأملاك ما يُغطيها، وهي الفكرة التي فنّدها الباحث الاقتصادي عبد الجليل البدوي في دراسته "أزمة المالية العمومية سنة 2020-2021: أي قراءة للموجود وأي حلول لتحقيق المنشود"، المنشورة في موقع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فقد بيّن البدوي أن خصخصة المؤسسات العمومية من 1987 إلى 2017 شملت 228 مؤسّسة، ووفرت ما قدره 6421 مليون دينار، وهو مبلغٌ زهيدٌ مقارنة بأهمية المؤسّسات التي تمّت مصادرتها أو خصخصتها ودورها الاقتصادي والاجتماعي المهم الذي كانت تلعبه لفائدة الدولة والمجتمع، وحجمها المتواضع في ميزانيات الدولة على مدى 30 سنة، بمعدل 214 مليون دينار سنوياً. وهي بتلك المحدودية لا يمكنها أن توفرّ حلاً للحكومات المتعاقبة لعجز الميزانية المزمن، ولأزمة المديونية المتفاقمة. وقد شجّع هذا الوضع المالي المأزوم المنذر بإفلاس الدولة وانهيارها وكالة موديز الأميركية للترقيم السيادي للدول على تخفيض تصنيف تونس للمرّة الثامنة على التوالي منذ سنة 2011، لتنحدر هذه المرّة من بـ 2 إلى بـ 3 سلبي، وهي آخر مرتبة قبل وضع الدولة التونسية في صنف الدول "عالية المخاطر" الذي بلغه لبنان، ما يحول دون الولوج إلى الأسواق المالية الدولية لمزيد من الاقتراض، وما يمنع الدول المقرضة من منح ثقتها الحكومة التونسية للحصول على تمويلاتٍ بأي شكلٍ كان. وقد ربطت الوكالة تصنيفها السلبي جداً بتأخير التفاوض بين صندوق النقد الدولي والحكومة التونسية وتنفيذ الإصلاحات التي يقترحها هذا الصندوق، قصد الوصول إلى الاستقرار السياسي.

لا مخرج لهذا الوضع المفتوح على احتمالات غير محمودة إلا بعقد سياسي تاريخي بين فرقاء الأيديولوجيا والسياسة

استغل الوزير الأول الفرنسي، جون كاستاك، في أثناء زيارته تونس مطلع شهر يونيو/ حزيران الجاري تفاقم المديونية التونسية، لا سيما الديون الخارجية، ليدعو إلى بعث وكالة للتصرّف في الديون التونسية، الأمر الذي اعتبرته النخب الوطنية محاولةً لإعادة إنتاج تجربة "الكمسيون المالي" التي تشكّلت نتيجة عجز الدولة التونسية تحت حكم محمد الصادق باي عن الخلاص من ديونها تجاه إيطاليا وفرنسا وإنكلترا، وتولى رئاستها خير الدين باشا التونسي سنة 1869، ومهّد عملها إلى احتلال فرنسا تونس سنة 1881، على الرغم من النزعة الإصلاحية التي ميّزت تجربة خير الدين ككل، وخصوصاً في أثناء توليه رئاسة الوزارة الكبرى 1873-1877، كما يقرّ بذلك المؤرخ الفرنسي، جون قانياج، في كتابه "جذور الحماية الفرنسية بالبلاد التونسية 1881-1881" (نقله إلى العربية عبد الجليل بوقرة، منشورات المركز الوطني للترجمة، تونس، جزءان، 2014).

المعادلة اليوم هي بين وضع تونس تحت الوصاية المالية الدولية، بعد أن بات صندوق النقد الدولي الحاكم الفعلي الذي يتدخّل في تفاصيل السياسات وصغار القرارات وكبرياتها، لعجزٍ في تسديد ديونها وتعبئة موازناتها، وبين الحفاظ على سيادتها واستقلالها وإدارة شؤونها بعيداً عن التدخل الأجنبي الذي يتجلى يومياً من خلال أدوار سفراء الدول الكبرى وقناصلها (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) الذين يتدخلون في كل قضايا السياسة والمجتمع، كما كان الحال عشية استعمار تونس سنة 1881، مستغلّين ضعف شخصية رئيس الحكومة التونسية، هشام المشيشي، وانعدام تجربته وخبرته السياسية ودرايته بالحكم ودهاليزه، وغياب مفهوم الدولة لديه.

لا يبدو أن الغنوشي وحزبه الإسلامي قد استفاق على حقيقة الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي الكارثي الذي بلغته تونس

ويقابل هذا الوضع المنذر بالانفجار نزاع نفوذ عبثي فاقد المعنى والشرعية بين رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي بنيت شخصيته الأساسية وتشكّلت نهائياً خلال مختلف مراحل حياته، بالاعتماد على مبادئ عامة تعوزها الخبرة السياسية والمعرفة الدقيقة بمقتضيات الحكم ودقائق السياسة وإكراهاتها، وما تقتضيه من تنازلات وتراجعات من أجل التقدّم من جديد، ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، ومن ورائه حركة النهضة الإسلامية الذي حاول جاهداً أن يجعل من قصر قرطاج وساكنه مجرّد دميةٍ قابلةٍ للتحريك والتحكم، كلما اقتضت ضرورات السياسة ذلك. ومن أبرز مظاهر الصراع بين الرجلين الموقف من المحكمة الدستورية والتحوير (التعديل) الوزاري المعطّل، ولا يبدو أن سعيّد، صاحب اليد النظيفة والصدق في القول، قد استفاد من تجربته الطويلة في العمل الجامعي، ونظيرتها القصيرة في تسيير الدولة، ما يدفعه إلى المواصلة في تسويق بعض النماذج السياسة الطوباوية وتجارب التاريخ القديمة، والتفكير في إعادة انبعاثها في غير أزمنتها، على غرار دعوته إلى العودة إلى دستور 1959 الذي أسقطته الثورة التونسية، بدلاً من ممارسة السياسة العملية القائمة على توفير الحلول الضرورية لمشكلات الناس اليومية، وفق مقاربة إصلاحية ناجعة وقابلة للممارسة والتطبيق.

ولا يبدو كذلك أن الغنوشي وحزبه الإسلامي الذي احتفل يوم 6 يونيو/ حزيران الحالي بالذكرى الأربعين لتأسيسه قد استفاق على حقيقة الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي الكارثي الذي بلغته تونس، بعد أن حكمها الإسلاميون من فوق خشبة المسرح السياسي، أو من وراء الستار عشر سنوات أو يزيد، وأن ثلاثية التمكين والغنيمة والمناورة التي حكمت هذه التجربة النهضاوية لم تعد صالحة للحكم، ولا يمكنها إصلاح الأحوال وإنقاذ العمران من الانهيار.

تقف تونس اليوم على شفا جرفٍ هار، وقد يؤدي السقوط في محرقته نتيجة الأزمة المالية الحادّة والنزاع الأناني على السلطة وتجاهل المؤشّرات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة إلى عودة الوصاية الدولية، وحتى الاستعمار المباشر وانهيار التجربة الديمقراطية الفتية، وفرار الطبقة السياسية، بأحزابها وتنظيماتها وبحكّامها ومعارضيها، ما قد يضع الجميع أمام في فكّي كمّاشة، فإما الاستبداد والدكتاتورية أو انهيار الدولة. ولا مخرج لهذا الوضع المفتوح على احتمالات غير محمودة إلا بعقد سياسي تاريخي بين فرقاء الأيديولوجيا والسياسة، عسى أن تُنتشل البلاد من وضع يكاد يكون محتوماً.