عندما ينتحر طلاب مصريون
باتت أخبار انتحار طلاب في مصر متكررة، تتزامن مع موسمي الامتحانات وإعلان النتائج بشكل خاص، نشرت الصحف خلال أسبوعين عن تسع حالات، ولا يمكن رصد أعداد المنتحرين بدقة، ولا تتوفر قاعدة بيانات تصدرها أجهزة مختصة، لكن ذلك لا ينفي خطورة تكرار الفعل المتزامن مع الإخفاق الدراسي، والمتّصل بجملةٍ من الأسباب، منها بيئة التعليم والضغوط النفسية التي يمارسها المحيط الاجتماعي على الطلاب، واعتبار منظومة التعليم تحدّيا واختبارا يمثل مأزقا، وبوابة عبور وانتقال إلى مراحل تعليمية تالية، ويؤهل لممارسة الأدوار الاجتماعية. لذا يمثل مأزقاً وموقفاً ضاغطاً. وحسب منظومة القيم المؤثرة في سلوك المجتمع المصري ومجتمعات عربية، يمثل التعليم لشرائح طبقية وسطى ومفقرة أداة للترقّي والحصول على العمل، منها يستطيع أو يفترض أن ينتقل الأبناء إلى مصائر أفضل، ويمثل ذلك هاجسا للأسر، وضغوطا على الأبناء، قد لا يستطيعون تحمّلها لو تزامن معها هشاشة نفسية.
حسب تقارير المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني وحقوق الإنسان، والتي تنشط في رصد حالات الانتحار، كان الطلاب في المركز الثاني بعد العاطلين عن العمل، وبلغ إجمالي المنتحرين في مصر 203 خلال النصف الأول من العام الجاري (2021)، بينما تشير تقارير حكومية إلى جنوح المراهقين إلى محاولات الانتحار، غير حالات الانتحار الفعلية، أي أن الميول الانتحارية والمرتبطة بالقلق والضغوط والاكتئاب لا تتحوّل بالضرورة إلى انتحار فعلي، لكن الاكتئاب يبقى معضلة بين المراهقين، وسبق ونشرت وزارة الصحة نتائج المسح القومي للصحة النفسية للعام 2017، وأظهر أن 25% من العينة (22 ألف أسرة) مصابون باضطرابات نفسية، 40% يعانون الاكتئاب. وفي تقارير سابقة لمؤسسات رسمية، منها مركز السموم والجهاز القومي للتعبئة والإحصاء، يتضح أن عدد المنتحرين يتخذ خطّا صاعدا. ومع الأخذ في الاعتبار أن قاعدة الهرم السكاني من الأطفال والمراهقين، فإن نسب الانتحار تطاولهم، وتدعم هذا الافتراض تقارير منظمة الصحة العالمية التي تفيد بأن المراهقين والشباب في المرتبة الثانية للمنتحرين فى الفئة العمرية من 15 إلى 29 عاما، بينما إحصائيات مركز السموم مقلقة، وإنْ ليست بالضرورة كلها حالات انتحار. أمام هذا الوضع، أعلنت وزارة الصحة 2021 – 2022 عاما للصحة النفسية للمراهقين، بناء على ملاحظة زيادة في معدلات الاكتئاب والقلق.
لا يمكن فصل انتحار الطلاب عن معضلة النظام التعليمي ومنظومة القيم المرتبطة بالتعلم، والتي تسود المجتمع
لذا تلمّس الأزمة والالتفات إليها وبحث جذورها غاية في الأهمية، ولا تخضع هنا لمواقف سياسية، أو ثنائية المبالغة في مقابل بيانات رسمية تنفى، أو محاولات الخلط بين حالات الانتحار وأخبار كاذبة علق عليها وزير التعليم، طارق شوقي، ونشرها على صفحته في "فيسبوك"، بعنوان "المنتحرين العائدين للحياة". ولا بد من النظر إليها بوصفها مخاطر محدقة، حتى لو كانت حالات الرصد محدودة كميا، لأن الأهم المؤشّر الكيفي، خصوصا وأن هناك إحصائيات حول الاكتئاب بين المراهقين والطلاب، بالإضافة إلى أنهم يمثلون قاعدة الهرم السكاني، منهم من يعاني مشكلاتٍ نفسية واجتماعية، بجانب مشكلاتٍ بيئة التعلم، وتغيرات في النظام التعليمي متسارعة، تمّت بشكل فوقي، ومن دون اعتبارات لحوار مجتمعي أو تبصير للأسر والطلاب ومشاركة منهم، على الرغم مما فيها من شعارات صحية وخطوات في تعديل المناهج إلى الأفضل. وهنا لا يمكن فصل انتحار الطلاب عن معضلة النظام التعليمي ومنظومة القيم المرتبطة بالتعلم، والتي تسود المجتمع، ومنها أن التعلم والتفوق الدراسي فرصة للترقي، ومخرج من الحشر في أنماط عمل قاسية تعيد إنتاج التراتبية الاجتماعية بما فيها من صنوف القهر، وظروف عمل شبه عبودية أو بطالة قاتلة، يبرز المحيط الاجتماعي بما فيه مؤسّسات التعليم والأسرة، دورا هاما في تشكيل الأزمة التي تطاول الطلاب، إذ أخفقوا دراسيا، ويثقل الإخفاق الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، بما يتضمنه ذلك من أعباء يتشاركونها الطلاب مع أسرهم.
تجدر الإشارة هنا إلى مفهوم العقاب والخوف من المستقبل، والذي يتماسّ مع الخوف من الدراسة، وتعميق رهاب المدرسة والدراسة، ونظرة الطالب إلى ذاته حال الإخفاق، يشعر الطالب بفقدان قيمته واحترامه، وغياب التضامن في ظل ثقافةٍ تنافس وزجر وصراع، من أجل الانعتاق من وضعية آخر الصف، والحياة على الهامش. وفي ظل واقعٍ يغترب فيه أفراد الأسر العاملون بأجر، ويعانون الحرمان الاقتصادي، ويجاهدون في كفاح مستمر لتعليم أبنائهم وينتظرون الحصاد، يجد الطلاب أنفسهم أمام موقفٍ صعب، إذ لم يحققوا هذه الآمال، ويتقاسم الطلاب ثقل الحياة مع آبائهم، في أحيانٍ كثيرة، ليس كل الطلاب يتصفون بالصلابة النفسية والقدرة على الصمود وتخطّى التحدّيات. وبكل تأكيد، هناك نماذج دالّة على قوة وذكاء وتفوق، غير تفهم وتفاؤل بالمستقبل، حتى لو كانت مواردهم محدودة. لكن ذلك لا ينفي أن قطاعات من المراهقين يفتقدون القدرة على إدارة الانفعالات والمشاعر، ولا يوفّر محيطهم الدعم النفسي الاجتماعي الواجب حال الأزمات، وهؤلاء تلتهمهم الوحدة، يشعرون بأن حياتهم لا تمثل شيئا لذواتهم أو لمن حولهم، فقد يستدعي فقدان التوازن والقدرة على التكيف مع الموقف صوراً من رد الفعل على الأزمة، حين لا يستطيعون تحملها. ربما يكون الانتحار هنا كسر الإطار الذي يشكل السلطة القاهرة المخيفة، يهرب من الخذلان نهائيا، ينهي حياته.
قرار التخلص من النفس وإيذائها بالقتل يمرّ بمراحل من اليأس والعذابات والأزمات، يأس بالغ يتعاظم مع غياب الدعم والسند
مع التسليم بأن للانتحار أسباباً عديدة ومتشابكة، كما الظواهر الاجتماعية، إلا أنه لا يمكن، في الوقت نفسه، نفي أي سببٍ أو فصله عن الآخر. ولا يمكن تجاهل الظروف الاقتصادية والاجتماعية القاسية، حتى ولو وجدت أسباب وأمراض وراثية عقلية تسبب الانتحار، فقرار التخلص من النفس وإيذائها بالقتل يمرّ بمراحل من اليأس والعذابات والأزمات، يأس بالغ يتعاظم مع غياب الدعم والسند وانسداد الأفق الشخصي والجماعي أحيانا، حتى لو سلّمنا بوجود الانتحار في البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء. ولكن ذلك لا ينفي أثر الوضع الطبقي والاجتماعي للأسر الهشّة اجتماعيا، في الروابط والعلاقات، وفي الإمكانات الاقتصادية ورأس المال الاجتماعي. وعلينا تأمل أحيانا شكل الانتحار آلية تعبير عن موقف سابق على الفعل، فالموت شنقا انتحار معلن أحيانا، يكون محملا برسالة احتجاج وصرخة ضد الضغوط، كما تعبيرات دالّة على أن يترك المنتحر رسالته الأخيرة مكتوبة، يشرح الألم، ويردّ لوم محيطه الاجتماعي بلوم مضادّ أو دفاع أخير قبل إغلاق أبواب محاكمة بغطاء التابوت.
في الأنثروبولوجيا، يعد طقس الموت آخر بوابات العبور، وانتهاء لدور الفرد اجتماعيا. تبدأ الطقوس عند آرنولد فان جنيب بالميلاد ثم البلوغ والزواج وتنتهي بالموت، وحين ينتحر طالبٌ مراهقٌ فإنه ينهي المراحل مبكرا. في بعض قبائل أفريقيا، وبناء على نظام طبقات العمر، يتحدّد الانتقال بين الأدوار الاجتماعية، لكنّ الأدوار والفرص لا بد أن تناسب الجميع، يمرّون بها وتكون ممكنةً وقابلة للتدريب. في مجتمعات الأزمة يدفع بعضهم إلى ممارسة الأدوار وخوض تحدّيات متعددة، والتنافس والصراع.
يؤدّي تآكل الصلات الحميمة بين الأبناء والآباء والأسرة بشكل عام إلى خلل واغتراب، كما انقطاع علاقة المواطنين بالدولة
القيم لدى علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع مكون أساسي لفهم الظواهر والأحداث. هناك قيم التعلم وربطها بالمستقبل وقيم التفوق والصعود الاجتماعي. وفي المقابل، هناك أزمة أن المقدّمات لا تؤدي إلى نتائج، والتفوق ليس شرطا للتحرّر في غياب المساواة والعدالة. وهناك صرخة احتجاج، تأخذ شكلا انسحابيا هو الانتحار، ويتضمن أحيانا تحدّيا للسلطة الأبوية ومعايير المجتمع حول النجاح والإخفاق والإثابة والعقاب. الانتحار هنا، بشكل ما، مواجهة المهزوم للقاهر، وهو تمرّد على شريعة الإنجاز الدراسي مبرّرا للوجود، لا فصل بين المجال العائلي والمجال العام. يؤدّي تآكل الصلات الحميمة بين الأبناء والآباء والأسرة بشكل عام إلى خلل واغتراب، كما انقطاع علاقة المواطنين بالدولة، وافتقاد المواطنة، وانقطاع دور الدولة في توفير العمل والخدمات، كلاهما يُعلي من وتيرة القلق، وينعكس بالضرورة على الطلاب في بيئة التعلّم، وتحمّل نتائج تحصيلهم الدراسي التي ستحدد مستقبلهم الذي لم يخطط له بوصفهم مواطنين!
أخيرا، وإن استخفّ بعضهم بمخاطر تحيط بالطلاب المراهقين، واعتبر أن حالات الانتحار في مصر لا تمثل قيمة كمّية بالمقارنة بالكثافة السكانية، على من يستخف إدراك أن الانتحارات الجنينية، كما أسماها دوركهايم، تتضمن طيفا واسعا من صور إيذاء النفس والغير، منها المجازفات واللامبالاة والأفعال المتهورة والعنيفة، وليست منفصلة الصلة عن الانتحار الكامل والمقصود. وعلى من يهتم بمستقبل أفضل أو ممكن في أقل تقدير إدراك أن أي فعل يراه فرديا يحمل دلالات اجتماعية، ويعبر عن أزمة ليست منقطعة الصلة بأجواء استبداد جمعي، حسب تعبير دوركهايم، ومجمل مشكلاتٍ تحتاج إلى تفكير جاد وإرادة للتغيير من أجل بناء الإنسان، فهو الأوْلى والأهم من الجسور والطرق.