عندما يقع السياسي في شرّ أعماله
لسان نوري المالكي السليط الذي ظهر في تسجيلاتٍ مسرّبة عكس رؤيته الطائفية القاصرة إلى مجمل الأوضاع في العراق، وكشف ضحالة تفكيره وسعيه لإثارة الفتنة عبر توجيه الاتهامات يميناً وشمالاً، والزعم أن خصومه الصدريين وحزب مسعود بارزاني وقيادات سُنية يسعون لتنفيذ "مشروع بريطاني يضع الحكم في أيدي السُّنة"، وتحذير مريديه من أن المرحلة المقبلة مرحلة قتال، "وسوف أهجم على النجف في حال هجم (علينا) مقتدى الصدر، ولدي مجاميع مستعدّة، وأنا لا أثق لا بالجيش ولا بالشرط... وقد أردت جعل الحشد الشعبي مشابهاً للحرس الثوري الإيراني"، وزاد باتهام خصومه باستباحة الدماء وسرقة أموال الدولة... إلخ.
ليس مطلوباً من المالكي الذي أوقعه لسانه في شرّ أعماله أن ينفي أو حتى أن يعتذر، فمجمل مسيرته منذ "امتهن" السياسة يشبه مسلسلاً درامياً مطوّلاً يحوي مطبّات عديدة، واختراقات عديدة، وكذا سقطاتٍ عديدة بإمكان السياسي الذكي أن يتجنّبها كي لا يقع في شرّ أعماله. وإذا كان ميكيافيلي قد وصف رجل السياسة بأنه يعمل على تحويل العقبة التي تواجهه إلى فرصة للتراجع والاعتبار، فإن المالكي كان دائماً يحوّل الفرص التي تسنح أمامه إلى عقبات ومآزق له ولمريديه، وحتى لخصومه، وهذا ما فعله من خلال أحاديثه المسرّبة.
وقد تفيدنا مراجعة سريعة لسجله في إعطاء صورة أكثر قتامةً لممارساته المريضة التي هي أكثر من كافية لأن تضعه في قفص الاتهام أمام حاكم عدل.
يحوّل المالكي دائماً الفرص التي تسنح أمامه إلى عقبات ومآزق له ولمريديه، وحتى لخصومه
لم يكن جواد المالكي، وهذا هو الاسم الذي اصطنعه لنفسه إبّان العهد السابق، معروفاً في بداية نشاطه ضمن تنظيمات حزب الدعوة، باستثناء ما يعرفه القريبون منه أنه مكلف جمع التبرّعات من زوار مرقد السيدة زينب في دمشق وتحويلها إلى حزبه، متّخذاً من "دكان" صغير قرب المرقد يبيع فيه "السبح" مكاناً لترويج أفكاره الطائفية بين الشيعة العراقيين المقيمين في سورية، وقد بدأ موقعه داخل الحزب يكبر من خلال مساهمته في تنفيذ عمليات إرهابية ضد مؤسسات وشخصيات عراقية موالية للنظام السابق، ولكنه عندما عاد إلى العراق بعد الغزو لم يجد له مكاناً بين رجال الصف الأول الذين رشّحتهم أميركا لحكم العراق، وعُيّن موظفاً ثانوياً في "لجنة اجتثاث البعث"، لكن قدرته على التسلق وانتهاز الفرص أعانته على الاقتراب من إبراهيم الجعفري، الذي أصبح رئيساً لأول وزارة عراقية بعد الاحتلال، والذي رشّحه لخلافته إثر تنحّيه نتيجة عدم توافق القوى السياسية على بقائه في منصبه.
هنا يبدأ الفصل المثير في حياة المالكي الذي بدأ يتعامل باسمه الحقيقي، نوري كامل المالكي، ويضع خطواته بحذر على أرضية "العملية السياسية" التي هندسها الأميركيون. يقول سفير الولايات المتحدة الأسبق في العراق، زلماي خليل زاد، إن المالكي قدّم له ورقة مكتوبة من ثلاث عشرة نقطة، عرض فيها خدماته، مرشَّحاً لرئاسة الحكومة، ومعبّراً عن استعداده لتطبيق السياسات التي تخدم مصالح الولايات المتحدة. ووجد خليل زاد في المالكي الرجل الذي يمكن أن يحقق الاستقرار، كما قال، واتخذ قراره بالمراهنة عليه ووافق على ترشيحه. وسنعرف بعد سنوات أربع أن المالكي ينفض يده من واشنطن، ويقفز إلى طهران، ليحصل على الولاية الثانية، واعداً بتحقيق كل ما تريده إيران، ومنذ ذلك الوقت، سيصبح رجل إيران في العراق بلا منازع.
أنشأ نوري المالكي "مجاميع" مسلّحة تطوّرت لتشكّل النواة الأولى لمليشيات أرادها نسخةً من تجربة الحرس الثوري الإيراني
في الولاية الثانية، كشف المالكي كل أوراقه، ولم يتردّد في تأكيد ولائه المطلق لإيران، ضمن لها تمدّداً ديموغرافياً داخل بلاده، منح أكثر من نصف مليون إيراني الجنسية العراقية، خلافاً للقانون، أنشأ "مجاميع" مسلّحة تطوّرت لتشكّل النواة الأولى لمليشيات أرادها نسخةً من تجربة الحرس الثوري الإيراني، أنقذ إيران من كارثةٍ كادت تودي باقتصادها، وهي في ظل العقوبات، إذ أغدق عليها مليارات الدولارات من الخزينة العراقية، بطرقٍ أكثرها غير مشروع.
يسجّل عليه تجاهله مخطط إدخال "داعش" إلى الموصل، أو قل تماهيه مع المخطط الشرير وتسببه، وهو صاحب الحل والعقد آنذاك، بأكبر كارثة واجهها العراقيون بعد الاحتلال. وأيضا تسبّبه بمجزرة سبايكر التي أودت بحياة مئات الشباب، وكذلك استغلاله موقعه الرسمي في تبديد مليارات الدولارات، أو قل في سرقتها، وتحويلها إلى خارج البلاد بأسماء مقرّبين منه. وفي عهده وضعت منظمة الشفافية العالمية العراق على رأس قائمة الدول الأكثر فساداً.
وبعد كل هذه "الموبقات"، جاءت أحاديثه المسرّبة لتؤكّد ما هو مؤكّد، وتجهض آخر أمل له في أن يعود رئيساً للحكومة، وهو بذلك يكون قد وقع في شرّ أعماله.