عندما يدعو قيس سعيّد التونسيين إلى التقشّف
مع انقضاء المائة يوم الأولى على إعلان الرئيس التونسي، قيس سعيّد، إجراءات "25 جويليه" (يوليو/ تموز 2021)، وما انجرّ عنها من تغييرات المشهد السياسي في تونس، يبدو جليا تواصل انحسار جبهة الداعمين لسعيّد مقابل توسّع رافضي خياراته ومعارضيها. وقد كانت الأغلبية الحاكمة، المكونة من حركة النهضة وائتلاف الكرامة أول من شكل جبهة المعارضين لتلك الخيارات، معتبرة ما قام به سعيّد انقلابا على الدستور وخروجا عنه.
ومنذ إصدار الأمر الرئاسي عدد 117، المتعلق بالإجراءات الاستثنائية، في 22 سبتمبر/ أيلول 2021، برزت معارضاتٌ شتى لهذا الإجراء، شملت، علاوة على أحزاب الائتلاف الحاكم، أحزابا كانت تصنّف من مكونات حزام الرئيس، على غرار "التيار الديمقراطي" وأطياف أخرى من حركة الشعب وحزبي تحيا تونس والدستوري الحر وغيرها، علاوة على مكوّنات فاعلة في المجتمع المدني، أهمها المركزية النقابية الممثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل، مع شرائح عريضة من الشخصيات والجمعيات الاعتبارية والوطنية والحقوقية التي اعتبرت كلها الأمر الرئاسي عدد 117 "تكريسا لنظام سلطوي وسعيا إلى الانفراد بالحكم".
وقد تعدّدت المواقف المعلنة للأطياف العريضة المعارضة لسعيّد، أخيرا، عبر الفضاءات العامة ووسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، لتبيّن صراحة انحسار الحريات ومحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، وسعي الرئيس إلى وضع اليد على القضاء. وتجمع أغلب هذه المعارضات على التنديد بنزوع سعيّد نحو الانفراد بالحكم وإسكات صوت المعارضين له بملاحقات قضائية، كرسها صدور مذكرة الاعتقال الدولية بحق الرئيس السابق، منصف المرزوقي، فقد أمر رئيس الجمهورية وزيرة العدل بإحالة المرزوقي على القضاء، وحدّد لها الأسباب والفصل القانوني الذي يجب أن تعتمده في خطابٍ بث على الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية، ليعلن إثر ذلك مكتب الاتصال بالمحكمة الابتدائية بتونس يوم 4 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي "أن قاضي التحقيق أصدر بطاقة جلب في شأن السيد المنصف المرزوقي"، وقد جاء هذا الإجراء الذي اعتبر مشينا، بل هو يرقى إلى درجة "فضيحة دولة"، بعد قرار رئيس الجمهورية سحب جواز سفر المرزوقي الديبلوماسي، مع ما صاحب ذلك من حملات تشويه وتخوين واتهام بأنه أحبط انعقاد القمة الفرنكوفونية، والدفع باتجاه تلفيق اتهامه بالتآمر على أمن الدولة. وقد زاد هذا الإجراء ضد المرزوقي الطين بلة توسيعا لدوائر المعارضين، وتنديدا بما اعتبر تعسّفا جاء في سياق خطابات التخوين والكراهية والترذيل للمعارضة التونسية، بمختلف مكوناتها وأطيافها. وهي سياسة يعتبر المندّدون أن سعيّد سلكها منذ 25 يوليو/ تموز، في محاولة لإسكات كل من يعارض انفراده بالسلطة، ويقرّ هؤلاء بحق المرزوقي في التعبير عن آرائه في علاقة بالوضع في تونس، بعد انفراد سعيّد بالحكم.
خطاب التخوين الذي أصبح من مسلّمات ما يعلنه سعيّد في كل المناسبات أصبح "عاديا" ومؤسّسا ومعمّما
والواقع أن خطاب التخوين الذي أصبح من مسلّمات (وميزات) ما يعلنه سعيّد في كل المناسبات أصبح "عاديا" ومؤسّسا ومعمّما، وقد اعتبر نصب محاكم التفتيش والدعوات اليومية إلى محاسبة هذا الفاسد بذكر اسمه، ونشر كل معطياته الشخصية خطابا فجّر في المجتمع التونسي موجة الكراهية متعدّدة الأبعاد، فقد تأسس خطاب سعيّد، منذ البداية، على ثنائية "الأنا" مقابل "الآخر" و"نحن" مقابل "هم"، وهي ثنائياتٌ تضع الأنا في دائرة الخير والصلاح والطهورية والاستقامة والإرادة السياسية المكرّسة للعدل والمنزلة في أفق "الشعب يريد" مقابل الآخر، رمز الشر وصنو الشيطان والفاسد والعميل. وتكفي الإشارة إلى ما يطفح به خطاب سعيّد من مفردات من قبيل "هم الذين اعتقلوا الثورة، هؤلاء في قلوبهم مرض، لهم اتصالات بدوائر أجنبية مشبوهة، هم من ألفوا الغدر والخيانة والرياء، المتربصون والمخبرون والمخمورون والمجرمون، دأبوا على الكذب والافتراء"، و"لا عاش في تونس من خانها"، و"على الوطنيين تطهير البلاد من هؤلاء ...".
ويجمع محللون على أن خطاب قيس سعيّد هذا هو للفرز والاصطفاف على قاعدة الولاء، ويقسم التونسيين من جديد إلى فئات متضادّة، بل متحاربة "أولاها فئة تمثل الشعب الراغب في التغيير والداعم لسياسات الرئيس، في مقابل الفئة الضالّة من الخونة والفاسدين والعملاء المعارضين لهذه السياسة. وفي مدارات التحليل العلمي لهذا الخطاب في رأس السلطة، والذي استشرى وانتشر في قاعدتها يبرز سؤال محير عن مستقبل المناخ الديمقراطي، والتبشير بالنظام القاعدي والثقافة الحقوقية والأمن الاجتماعي، وصولا إلى كيان الدولة الاجتماعية العادلة ومؤسساتها وأهمها سيادة القانون وعلويته ووسائل تحقيق السلم الاجتماعية وإمكاناته في سياقات اقتصادية واجتماعية قاسية وصعبة.
اضطر سعيّد اليوم، من دون مقدّمات، لمطالبة الشعب التونسي بالاكتتاب والتقشّف، فيما اعتبر دعوة إلى الزهد
وتنزيلا على السابق، يمكن القول إن منصّات سعيّد تطلق صواريخ خطاب الكراهية الذي يخفي وعودا لم تتحقق (لم يحقق سعيّد سوى 6% من وعوده الانتخابية)/ حسب تقرير منظمة "أنا يقظ"، المعلن في مؤتمر صحافي عقدته في العاصمة التونسية يوم 25 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول). هو خطاب شعبوي لا يمتلك واقعيا تصوّرا للحكم ولإدارة الشأن العام. وأمام غياب القدرة على إدارة شؤون الحكم ومقتضياته، يظل هذا الخطاب يراوح بين مواصلة الهجوم على النخب الخائنة والمنظومة الفاسدة "والتراجع أمام إكراهات واقع اقتصادي واجتماعي صعب ومعقد، يجد سعيّد صعوبات جمة لفهمه وحسن إيجاد الآليات الممكنة لتوجيهه والخروج منه. ويجزم بأن سعيّد يعتقد واهما بأن لخطابه جاذبية شعبية كبرى، من دون الوعي بأنه يحمل في طياته بذور ومرتكزات فشله، لأنه يدعو شرائح شعبية مسحوقة إلى الاصطفاف والمناصرة وإعلان الحرب على من يعارضه من شرائح شعبية أخرى، ويعد المواطنين، من حيث لا يدري، بحياة أفضل، ويكفي، إذن، كما تقول أدبيات هذا التيار الشعبوي "تطهير البلاد من الفاسدين والخونة لتعم بحبوحة العيش للمفقرين والمهمشين خلال أشهر قليلة أو سنوات معدودات".
ولكن هذه الوعود "الخلابة" التي يطلقها صاحبها تبقى رهينة تغيير واقع صعب، يحتم معالجة الملفات المتراكمة من مديونية وفشل أداء المنظومات الإنتاجية وارتفاع نسب الفقر والبطالة وانهيار المالية العمومية.. وقد رفع سعيّد على امتداد مائة يوم من "إجراءات 25 جويلية" شعار "تونس دولة غنية لكنها منهوبة"، ولكنه اضطر اليوم، من دون مقدّمات، لمطالبة الشعب التونسي بالاكتتاب والتقشّف، فيما اعتبر دعوة إلى الزهد، مع ما يعنيه ذلك من رسائل سلبية في الداخل والخارج، دعوة عمّقت خوف التونسيين من مستقبلهم، ورفعت منسوب التوتر لديهم ودفعتهم إلى الهجرة إلى أرض أخرى، لا يسكنها قيس سعيّد!