عندما تمنع روسيا الأمن الغذائي للشمال السوري
لا قوافل مساعدات إنسانية إلى شمال غرب سورية، فروسيا لا تُحبّذ رؤية السوريين من دون مشكلات أو هموم. وبعد ثماني سنوات على التفويض لنقل المساعدات الإنسانية، توقف إيصال الدعم الإنساني للسوريين. ومع نجاح روسيا في تقليص عدد المعابر الدولية لإيصال المساعدات الإنسانية، من أربعة إلى اثنين ثم واحد فقط، ها هو المعبر اليتيم يخضع للابتزاز الروسي، ويضع ملايين السوريين في مواجهة الفقر والجوع.
وتسبب الفيتو الروسي في مجلس الأمن يوم 8 يوليو/ تموز الجاري بمأساة جديدة لساكني الشمال السوري، وحرمانهم من توفير أبسط مستلزماته المعيشية. حيث قرابة الثلاثة ملايين سوري يتيهون في البحث عن توفير الدواء وسلال إغاثية ومستلزمات حياتية، هي في حدها الأدنى من أبسط أنماط المعيشة؛ حيث أجهض الفيتو آمال السوريين في معبر باب الهوى الرابط بين شمال غرب سورية وتركيا. كما يحتار قرابة الخمسة ملايين سوري في شمال شرق سورية في أمر معيشتهم. وأحد الأسباب كان ولا يزال قضية معبر تل كوجر/ اليعربية، بسبب منع روسيا استخدامه للدعم الإنساني، يُضاف إليه الفشل الإداري والسياسي للإدارة الذاتية على المستوى الدولي، وخصوصا أن التحالف الدولي وروسيا موجودان في مناطق سيطرتها، وعدم التوجه صوب الإنتاج المحلي في أخصب المناطق السورية وضع ساكني الشمال الشرقي في وضع معيشي سيئ جداً.
سجال في مجلس الأمن حول مشروعين، الروسي المشترط ربط مشروعها باختصار المساعدات إلى ستة أشهر فقط، والتي تنتهي مع اشتداد فصل الشتاء، وتخصيص نسبة من مشاريع التعافي المبكّر لتصبح مشاريع لإعادة الإعمار، وتصب في مصلحة الشركات الروسية - السورية، قُوبل برفض 13 دولة من أصل الــ15 دولة أعضاء في مجلس الأمن، ومنها ثلاث دول دائمة العضوية. في حين فشل المشروع الثاني الذي تقدّمت به أيرلندا والنرويج بتمديد المساعدات ستة أشهر مضافا إليها ستة أخرى، اعتمادا على تقرير أمين عام الأمم المتحدة، بفيتو روسي، وامتناع صيني عن التصويت. وإذا كان مجلس الأمن يشهد كل هذه المعارك السياسية والتصويت بحق النقض (الفيتو)، فكيف للسوريين أن يتنبأوا بمستقبل بلادهم، أو أن تتفق الأطراف المتصارعة سياسياً وعسكرياً. وإذا كان معبرٌ صغير لإدخال المساعدات الإنسانية للجائعين والمحتاجين يتعرّض لكل هذا الابتزاز، فكيف والحال مع اللجنة الدستورية وهيئة التفاوض ومسارات الحل السياسي بشأن سورية. وتستمر روسيا باعتماد "الفيتو" منعاً لأي نص جديد يتجاوز الستة أشهر، وتصر على مسوّدتها المقترنة بالموافقة على شرط إعادة الإعمار، علماً أن صلاحية آلية السماح بالمساعدات الإنسانية لسورية من بوابة سيلفيجوزو - باب الهوى الحدودية انتهت في 10 يوليو/ تموز الجاري.
الرياء والنفاق الدولي لا حدود لهما، فلو توفرت الإرادة والرغبة السياسية للأميركان والغربيين عموماً، لتمكّنوا من إيصال المساعدات، بمختلف الطرق
في العموم، تتضح خمس قضايا مركّبة مما جرى في مجلس الأمن بشأن آلية تمديد التفويض الدولي لنقل المساعدات إلى السوريين المحتاجين:
أولاها: أن روسيا تسعى إلى ربط تجديد آلية عبور المساعدات بملفات تخدم الحكومة السورية، كقضايا الإنعاش المبكّر والمياه والكهرباء، فيصح القول إن روسيا تعمل على مبدأ الكهرباء مقابل الغذاء. ثانيتها: إذا كانت السيادة السورية هي العنوان العريض للفيتو الروسي، لأن المساعدات لا تدخل بموافقة الحكومة السورية، إنما فقط بتبليغها، وروسيا ترغب في توقيف آلية المساعدات ما لم تصل إلى دمشق أولاً، والأخيرة توزّعها بمعرفتها عبر الحدود الأمنية الهشّة، لتتحوّل إلى مساعدات عبر خطوط التماس بين الحكومة السورية والمعارضة، وهو ما سيعرض تلك المساعدات للابتزاز، وتحدّد من يستحقها ومن لا يستحقها. والغريب أن لا تكون قضية الملايين المتعرّضين لشبح المجاعة في صُلب العمل الدولي بعيداً عن الفيتو الروسي.
ثالثتها: الرياء والنفاق الدولي لا حدود لهما، فلو توفرت الإرادة والرغبة السياسية للأميركان والغربيين عموماً، لتمكّنوا من إيصال المساعدات، بمختلف الطرق، سواء عبر معبر سيمالكا الحدودي الرابط بين كردستان العراق والمنطقة الكردية، أو إدخالها عبر نقاط حدودية شديدة التشبيك بين تركيا ومناطق سيطرة المعارضة السورية. رابعتها: أدركت روسيا أنها تعيش حالة عزلة دولية عبر تصويت فرنسا وبريطانيا وأميركا بالضد من مسودة مشروعها، وهو يوم تاريخي في مجلس الأمن، أن تصوّت ثلاث دول دائمة العضوية ضد مسوّدة مشروع روسي، وهو موقف محرج للدبلوماسية الروسية في المجلس، خصوصا أمام الشارع الروسي، وفي خضم الحرب الروسية على أوكرانيا. والخامسة: لماذا كل هذا التعامي عن باقي المعابر، كمعبر تل كوجر، وهو الآخر يشكل بوابة النجاة لملايين السوريين القابعين في أغنى المناطق وأكثرها فقراً؟ سؤالٌ في جوهره رسالة دولية واضحة المعالم للإدارة الذاتية، والتي ترغب روسيا بابتزازها عبر اشتراط رفع العلم السوري، وأن تدير الحكومة السورية المعبر، ويوافق الجانب العراقي من الطرف الآخر. وبين طياته، لا يحمل الوضع المعيشي والسكاني لشمال شرق سورية الأهمية الإنسانية والأخلاقية ذاتها التي يتحلّى بها شمال غرب سورية لدى الدول الفاعلة في القرار السوري، وما يعنيه من مؤشّر واضح على الأولويات لدى الدول الفاعلة، في ما يخصّ المجتمعات المحلية. ومع ذلك، تبقى ناقصة وفاقدة للحركية المطلوبة أمام أيَّ عارض.
لا يحمل الوضع المعيشي والسكاني لشمال شرق سورية الأهمية الإنسانية التي يتحلّى بها شمال غرب سورية لدى الدول الفاعلة
ومع تعهد سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، بإيجاد آلية لمواصلة نقل المساعدات إلى سورية، يظهر حجم غياب أيّ رؤية واضحة لتلك الدول لحيوات المجتمع السوري وهمومه وقضاياه، فالفيتو الروسي يعني إغلاق شريان الحياة الأخير لثلاثة ملايين سوري يعتمدون على مساعدات الأمم المتحدة للبقاء على قيد الحياة، وهو ما يعني تفاقم الأزمة الإنسانية، وتغذية النزعات العنفية، فلا محرّك للعنف وخطاب الكراهية والجريمة بحجم الفقر والضعف الاقتصادي، وهو ما يتحمّله مجلس الأمن، وخصوصا أن الأمر لا يتوقّف على السلال الإغاثية فحسب، بل يتعدّاها للوصول إلى الخدمات الأساسية من إسكان ومياه وزراعة وصحة وتربية وتعليم ومواجهة الأوبئة ودعم مشاريع الإنتاج وغيرها. ولا حلول في الأفق. ويتّجه المعبر إلى الإغلاق النهائي، ما لم تجر الاستجابة للمشروع الروسي، وتخصيص جزء لن يكون بالقليل لمشارع إعادة الإعمار، وهي حصراً ستكون للمناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية والمصالح الروسية، ولن يستفيد الشمال السوري منها بشيء. علماً أن روسيا على تماسّ سياسي وأمني وغذائي مباشر مع السوريين. وهي تطبق مواقفها من القضية السورية، وتعبر عنها تجسيداً مباشراً، سواء عبر مجلس الأمن أو خارجه، منطلقة من معيار منعها سياسة القطب الواحد في العالم، لكنها لا تكترث بمصير ملايين السوريين وحيواتهم خارج نطاق سيطرتها في الشمال السوري، ولا حتّى في مناطق التماسّ بينها وبين المجتمعات المحلية في مناطق وجودها في شمال شرق سورية، وهي التي لها وجود عسكري في قرى ومدن خاضعة لسيطرة القوات الحكومية السورية، لكنها، في كل الحالات، لم تسع إلى التخفيف من الآثار الاقتصادية المميتة، فهي تمنع إدخال المساعدات عبر باب الهوى، وتستمر في إغلاق "معبر تل كوجر"، ولم تؤمن مقومات المعيشة في عموم المحافظات السورية الأخرى، لنصبح، نحن السوريين، أمام خيبة أمل ناجزة مُسبقاً ومنذ بدايات التدخل الروسي في سورية، والتي لم تتحرّك فيه موسكو إلا بما يخدم صفقاتها المستقبلية، تُضاف إليها التصريحات والمواقف "الإعلامية" من دول الغرب عن الوضع الإنساني للسوريين، والتي بقيت دون مستوى الطموح والمأمول.
هل يُمكن أن نشاهد دورة اقتصادية متكاملة بين طرفي الشمال السوري، تخفّف كثيراً من معاناة السوريين، كأحد الحلول المستعجلة، وهي الدورة التي تحتاج دعما إقليميا، وستجد في تركيا وإقليم كردستان العراق ملاذها المطلوب، بما فيها التسويات السياسية والتوافقات التي تحتاجها المنطقة بين مختلف الأطراف السياسية، درءاً لمخاطر المجاعات، ومنع مزيد من الحروب والمعارك التي لم تعد لنا، نحن السوريين، إمكانية الاستمرار بها، تكون بذلك (الدورة الاقتصادية والتبادل التجاري الوازن) طوق نجاة للسوريين جميعاً في غرب الفرات، والمنطقة الكردية ومحافظات دير الزور والرقّة وما حولها.