عندما تمعن فرنسا في كراهية الجزائريين
أثارت قضيتان، شهدتهما فرنسا والعالم، هذه الأيّام، خطاب الكراهية، بوتيرةٍ متصاعدةٍ عما كانت عليه، في السّابق، لدى الطّبقة السّياسية الفرنسية، ولدى نخبة إعلاميين ومثقفين، من مختلف المشارب والتيارات الأيديولوجية: عودة اللّاعب كريم بن زيمة إلى الفريق القومي الفرنسي، والعدوان الصُّهيوني على غزّة والقدس وما تبعه من منع المغاربيين، بصفة خاصّة، من التّعبير عن مساندتهم إخوانهم في فلسطين، في جوّ سياسي استفزازي، ساد فيه خطابٌ يتضمّن تعبير تلك الطبقة السياسية، النّخبة الإعلامية والمثقفة، وفي مقدمتها الرّئيس ماكرون، عن انحيازهم الكامل للكيان الصُّهيوني على حساب الفلسطينيين، وهي قضايا استدعت هجمات على الجزائر، باعتبار أنّها الموطن الأصلي لبن زيمة، وبأنّ من خرج في باريس للتّعبير عن مساندتهم فلسطين هم من الجزائريين، في أغلبهم، إلى جانب التونسيين والمغاربة.
اعتدنا على سماع ذلك الكم من الكراهية، لكنه يأخذ، شيئاً فشيئاً، مساره التصاعدي، لتزامنه مع الحملة الرئاسية للعام المقبل، 2022. ولذا يحتاج إلى معرفة من يقف وراءه، والرسائل السّياسية التي يريد تمريرها وتداعيات ذلك على جملة الملفّات السّياسية، وغيرها بين البلدين، مستقبلاً.
يتصدّر المشهد، في خطاب الكراهية الجديد والمتجدّد، إعلاميون، سياسيون ومثقفون من مختلف تيارات فرنسا السياسية من اليمين إلى اليسار، مروراً بالوسط، حيث حاول الجميع التركيز على مضامين تغريدات بن زيمة بشأن ولائه للوطن الأم، الجزائر، إضافة إلى إبرازه العلني مشاعر دينية يحرص على القيام بها، على غرار لبس القميص، رفع اليدين في الدعاء وإنهاء منشوراته وتغريداته بعبارة الحمد لله، خصوصاً التي أعلم فيها الرّأي العالم الفرنسي بعودته إلى منتحب الديوك، لتمثيل فرنسا في مسابقة كأس أوروبا للأمم، انطلاقاً من الشهر المقبل (يونيو/ حزيران).
ركّز هؤلاء على مضامين تلك الرسائل التواصلية، واعتبروها منافية للسياق الثقافي - الهوياتي الفرنسي، معتبرين أن سلوك بن زيمة لا يتناسب مع الانتماء الرياضي للاعب، كما انتقدوا مشاعر بن زيمة نحو الجزائر، لتنصبّ الشتائم على البلاد بطريقة غير مباشرة من بعضهم، ومباشرة من آخرين، باعتبار أن السياق الثقافي، الدّيني والهوياتي، للبلدين لا يلتقيان، ويجب إحداث القطيعة مع كل ما يأتي من الجزائر، إلى درجة أن هناك من اغتنم فرصة رفض بن زيمة تحريك شفتيه، لترديد كلمات النشيد الوطني الفرنسي، بأنه سلوك إضافي لعداوة اللاعب ذي الأصول الجزائرية لفرنسا، على الرّغم من استشهاد المنصفين، على منصّات بعض القنوات، بالأسطورتين زيدان وبلاتيني، اللذين أصرّا، طوال تمثليهما الفريق القومي الفرنسي، على عدم ترديد ذلك النّشيد، بل أعاد بعضهم عرض فيديو لبلاتيني، قال فيه إنّ النّشيد الوطني الفرنسي يتضمّن عباراتٍ تدعو إلى العدوان، ما زاد من حنق تلك النخبة على اللاعب بن زيمة، إمعاناً منهم في النّيل من كريم بن زيمة، ومواصلة في اللعب بعقل المواطن الفرنسي.
يتصدّر المشهد، في خطاب الكراهية الجديد والمتجدّد، إعلاميون، سياسيون ومثقفون من مختلف تيارات فرنسا السياسية من اليمين إلى اليسار
على مستوى آخر، وبسبب العدوان الأخير الصُّهيوني على حيّ الشيخ جرّاح، والمصلين في القدس الشريف، ثمّ الحرب على غزّة، ارتفعت وتيرة ذلك الخطاب الصّادر من رأس الدولة الفرنسية، وصولاً إلى منصات تلك القنوات، وعلى صفحات الصحف، مروراً بالإعلام البديل ومنصّات التّواصل الاجتماعي، حيث ساوت تلك الخطابات بين المعتدي والمعتدى عليه، مع تجاهل الاستخدام المفرط للقوّة، ومئات العزّل من ضحايا تلك الحرب من الجانب الصُّهيوني.
تحوّل ذلك الخطاب السّياسي المعلّب بكثير من الكراهية للأجانب وللآخر إلى حركية سياسية، من خلال الدعوة إلى التعامل بالقوة مع التّجمّعات المنظّمة لمساندة الفلسطينيين في باريس، وهو ما حدث، فعلاً، على عكس ما جرى في العواصم الغربية كلّها، بل وفي الولايات المتحدة أيضاً، القوّة العظمى المساندة للكيان الصُّهيوني. من ناحية أخرى، ارتفع الصوت السياسي الفرنسي، رئاسة وحكومة، أحزاباً ومنصّات التّواصل الاجتماعي، من جرّاء ذلك، للقول إنّ حركة حماس إرهابية، وإنّ دولة الكيان الصُّهيوني في حالة دفاع شرعي عن نفسها، وإنّ المغاربيين لا يحقّ لهم الخروج للتّعبير عن وقوفهم مع فلسطين، مع تصوير من يفعل ذلك منحازاً للإرهاب، انعزالياً، وبولاء غير مقبول منه بالنّسبة للجمهورية ولقوانينها.
على مستوى آخر، بالنسبة للرّسائل السّياسية من وراء خطاب الكراهية الفرنسي، أخيراً، اليمين السياسي، باعتباره توجهاً سياسياً طاغياً على كل التيارات السياسية الفرنسية، بما فيها اليسارية، أيضاً، أضحى متلازمةً حيويةً لركوب موجة الحصول على الترشيح للرّئاسيات، أو ربح معركة الأصوات، إضافة إلى اعتلاء عرش التأثير على العقل السياسي الفرنسي، وعلى التوجهات الفرنسية، ثقافياً وهوياتياً، وإبراز أنّ الهوية الفرنسية مرادفة لرفض الآخر ومعاداته، وكأن الحياة في فرنسا تستلزم الولاء لقيم تتجاوز الهوية الأصلية أو التعدّدية الحضارية، والهوياتية والحرّية السّياسية.
يتصدّر المشهد، في خطاب الكراهية الجديد والمتجدّد إعلاميون وسياسيون ومثقفون من مختلف تيارات فرنسا السياسية
يمكن فهم الخطاب، سياسياً، من خلال مؤشّر التّوجيه الإعلامي لرئاسياتٍ ستوصل، وفق عمليات سبر الآراء، إلى الدور الثاني، كلاً من ماكرون وزعيمة اليمين المتطرّف، مارين لوبان، كريمة مجرم الحرب لوبان (متّهم، وفق مذّكرات عسكري فرنسي سابق، بتعذيب ثم قتل الشّهيد العربي بن مهيدي)، في إعادة لرئاسيات 2017، ما قد يمكّن، احتمالاً، ماكرون من ربح معركة ولاية ثانية لخدمة عالم الأعمال والمال، مضافاً إليها البروز القوي للانحياز للكيان الصُّهيوني الذي تمثّله، في فرنسا، رساميل بعض الشّركات الإعلامية التي انخرطت في خطاب الكراهية.
لا يجب أن ننسى، هنا، الإشارة إلى استفادة الخطاب الفرنسي المليء بالكراهية تجاه الجزائريين، بصفة خاصّة، من الانحياز الذي أبدته وسائل التّواصل الاجتماعي، بعملها على منع إظهار شعارات وتغريدات التأييد للقضية الفلسطينية وللمقاومة، بل سرعان ما بدأت تلك الوسائل، الإعلامية والافتراضية، في الرّبط بين الجموع التي خرجت للتعبير عن مساندتها الفلسطينيين وبعض القضايا التي لا تنفكّ تتحدث عنها: الهجرة، الإسلام، الإرهاب والشرق الأوسط، في إطار مضمونٍ يبرز الكراهية الشديدة تجاه الآخر وانحيازاً كاملاً للكيان الصهيوني، وهي ثنائية أضحت طبيعية في مضمون الخطاب السّياسي والإعلامي، على حدّ سواء، في فرنسا، في العقود الأخيرة.
عنصرية فظّة، ترتفع وسترتفع وتيرتها، حتماً، في الأشهر المقبلة، بمناسبة الرئاسيات المرتقبة في إبريل 2022.
يُعتبر الأمر ذاته عند مطالعة الصُّحف والمجلّات التي حاولت التّركيز، في حالة استدعاء الناخب الفرنسي كريم بن زيمة، من جديد، للعب للمنتخب القومي الفرنسي، على مسائل تتحدّث فيها عن اللاعب وسلوكاته التي يظهر، من خلالها، ارتباطه بهويته الإسلامية والجزائرية، وما يبرز أكثر، في الخط التحريري لتلك الوسائل الإعلامية المكتوبة، أنها تعمّم في خطابها، من حيث الرُّؤية السلبية للاعب، سلوكاته وشخصيته، على كل المهاجرين، خصوصاً المغاربيين والجزائريين، بعيداً عن الأخلاقيات ومواثيق العمل الإعلامي التي تذكّر بها عند أي ارتفاع للحديث، من بعض المنصفين أو المهاجرين، عن انتقاد الكيان الصُّهيوني، حيث تبرز، آنذاك، عبارات معاداة السّامية وكراهية اليهود، بل الإرهاب، بكل بساطة.
ذكر الكاتب، في مقالات سابقة في "العربي الجديد"، أنّ الخطاب الإعلامي والسّياسي، بمضمون الكراهية للجزائريين وللمغاربيين، عموماً، سيطبع المرحلة المقبلة مع ارتفاع وتيرة التّحضير للانتخابات الرّئاسية، وهي تحاول، فقط، تحيُّن فرص أي تطورات، حتّى الرّياضية منها، لإبراز ذلك الخط التحريري، وغرسه في العقل السّياسي الفرنسي، توجيهاً له نحو الاختيار في الاقتراع لصالح الهوية الفرنسية التي يدّعون أنّها في خطر، وأنّ الانعزالية الإسلامية تتطوّر، وأنّ على فرنسا حماية نفسها من الخطر الدّاهم من المهاجرين، ليكون ذلك الخطاب بمضمون الكراهية مشروعاً ومبرّراً.
تلك هي فرنسا، وذلك هو خطابها الإعلامي الذي تمعن فيه من كراهية الجزائريين، وهي في هذا كله لا تحرّك مواثيقها الأخلاقية للتعديل من المضمون، كما لا تتحرّك السلطات في منع أجهزة الإعلام والمحللين، الإعلاميين والنّخبة المثقفة المنخرطين في ذلك، من التّمادي في وصف كلّ ما يمت بصلة إلى المسلمين، المغاربيين، والجزائريين بصفة خاصّة، بألفاظ منحطّة، بعنصرية فظّة، ترتفع وسترتفع وتيرتها، حتماً، في الأشهر المقبلة، بمناسبة الرئاسيات المرتقبة في إبريل/ نيسان 2022.