عندما تصبح "الثقافة" هي الضحية
غالبا ما يحدُث في أزمنة الحروب أن تصبح "الثقافة" هي الضحية، وأن يسعى المحاربون إلى استخدام المثقفين والأدباء والفنانين للتبشير بأهداف الحرب، وتمجيد من سقطوا وهم يرفعون راياتها، وإسباغ صفة "البطولة" عليهم، وكذا تحويل هزائم الميدان إلى انتصارات، وتوظيف كل الأشكال الفنية لترويج شعارات الحرب ومقولات قادتها، وإرغامهم على الصمت عما تقترفه الآلة العسكرية من فظائع، وما يرتكبه الجنود من أخطاء وخطايا، كما يطلب منهم طمس انتصارات الطرف الخصم والتقليل من أهميتها، والنظر إلى الأديب أو الفنان الذي يرفض منطق الحرب على أنه "خائن وطنه وخارج عن إجماع الأمة". ولذلك يعمد مثقفون عديدون معارضون فكرة الحرب إلى الهرب أو الانزواء والتخفي، كي لا ينالهم عقاب السلطة الحاكمة.
ليست حرب أوكرانيا استثناء، وقد دخلت شهرها الرابع، والأهداف التي سعى إليها الروس لم تتحقق، بل تواصلت الحرب أكثر مما قدّر لها، وهذا ما جعل العالم أكثر قلقا، خصوصا وأن مشاهد الحرب على الأرض، كما تنقلها الشاشات، توحي أن الأيام المقبلة سوف تكون حافلةً بما هو أكثر هولا، وسيجد المثقفون والأدباء الذين حاولوا تبريرها، وهم كثر، سيجدون أنفسهم أمام تصاعد وحشية الآلة العسكرية ودخول أسلحة جديدة إلى الميدان، والتهديد باستخدام السلاح النووي، واتساع نطاق العمليات العسكرية الى بلدانٍ أخرى، وما تثيره كل تلك التداعيات من مشكلات، مشكلة اللاجئين الذين تزداد أعدادهم يوميا، مشكلة العجز عن تأمين سلاسل الغذاء في العالم، مشكلة تدهور الاقتصاد في أكثر من قارّة واتساع دائرة الفقر وعدم توفر ضروريات الحياة. والمشكلة الأكثر استعصاء هي كيفية الوصول إلى نهاية قريبة للحرب، أو على الأقل تحقق إمكانية لهدنة مؤقتة في المدى القصير أو المتوسط.
مع الحرب الروسية ضد أوكرانيا ظهر رهاب ضد الثقافة الروسية
في هذا العرض لا نبالغ، ولا نريد أن نتكهن، ونأمل أن يسود التعقل والحس السليم، حتى داخل الدوائر المجنونة بالحرب، سواء لدى هذا الطرف أو ذاك.
ولا تكمن حكايات الضرر الذي يحيق بالثقافة والمثقفين، وبالأدباء والفنانين في أزمنة الحروب في هذه الجوانب فحسب، إنما في جوانب أخرى أيضا، منها أن الحرب تنشئ، عند أحد طرفيها، رهابا من ثقافة الطرف الآخر. وفي حرب أوكرانيا الماثلة تظهر شواهد عديدة من رهاب ضد الثقافة الروسية من مجموعات في بلاد الغرب، وفي أماكن أخرى من العالم، وهي آخذة في الانتشار، كما يبدو، مع استمرار الحرب واتساع دائرتها، وهذا ما عانت منه آثار الروائي الروسي، فيودور دوستويفسكي، صاحب "الجريمة والعقاب"، الذي لم يشفع له أنه عاش في حقبة سابقة، وكان معارضا حكام بلاده، وحكم عليه بالإعدام في حينه ثم نفي إلى معسكرات العمل الشاق في سيبيريا. ومع ذلك، رُفع اسمه من المناهج الدراسية في جامعات عديدة في الغرب، آخرها في إيطاليا، حيث ظهرت مطالبات من أكاديميين بحذف آثاره من مناهج الدراسة.
وظهر هذا الرهاب أيضا في استعداء اتحاد كتاب دول البلطيق للكتاب الروس ودعوته الناشرين ومعارض الكتب إلى مقاطعة كتبهم وعدم ترويجها، وأيضا في إعلان الأكاديمية الأوروبية للسينما شطب الأفلام الروسية المرشّحة لجائزة السينما الأوروبية لهذا العام، وكذلك في مقاطعة مركز الأوبرا في ولاية بافاريا الألمانية مغنية الأوبرا الروسية آنا نيتريبكو، رغم دعوتها إلى وقف الحرب في أوكرانيا، ورفضها فكرة إجبار الفنانين على تبني وجهة نظر سياسية معينة.
تتحوّل "الثقافة" في ظل الحروب إلى ضحية، وتصبح كلمات المفكرين والأدباء والفنانين خارجة عن السياق العام للأحداث
وفي مهرجان ربيع ولاية كولورادو الأميركية، حُذف اسم يوري غاغارين الروسي، أول رائد فضاء، وذلك من البرنامج المتعلق بالفضاء، كما حدث الشيء نفسه في دوقية لوكسمبورغ، إذ أزيل تمثال نصفي له، مع أنه متوفى منذ خمسين عاما، ويعدّ من بين أعظم شخصيات التاريخ الإنساني في العصر الحديث.
المفارقة اللافتة هنا أنه حتى الجنسية يمكن أن تنحّى جانبا، إذا كان الأمر مقصودا من الناحية السياسية، وهذا ما حدث مع الفيلسوف الألماني الذي عاش ومات في إنكلترا، ولم تكن له أية علاقة بروسيا، كارل ماركس شريك فريدريك أنجلز في كتابة "البيان الشيوعي" الذي حذفت مؤلفاته إثر حرب أوكرانيا من الصفوف الدراسية في جامعة فلوريدا بالولايات المتحدة، واعتبر مفكّرا غير مرغوب فيه. حدث هذا مع أن روسيا لم تعد تعتنق الفكر الشيوعي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وإن كانت لا تزال لديها بعض تقاليد الماضي الأحمر وأعرافه، والآن تسعى إلى توسيع دائرة نفوذها وأخْذ موقع لها في إدارة شؤون العالم ومقدّراته.
هكذا تتحوّل "الثقافة" في ظل الحروب إلى ضحية، وتصبح كلمات المفكرين والأدباء والفنانين خارجة عن السياق العام للأحداث.