عندما تتجدّد تظاهرات الليبيين
عندما انطلقت التظاهرات، في أغلب المدن والقرى الليبية، ضد نظام معمّر القذافي، مطالبة بتحسين ظروفها المعيشية ومندّدة بالاستبداد والديكتاتورية وقمع الحريات التي كان يمارسها النظام بكلّ حرفية، لم يكن أكثر المشاركين تشاؤماً يتوقع أنّه سيأتي يوم يردّد فيه، وآخرون مثله، بيت الشعر الذي يُنسَب إلى عليّ بن أبي طالب:
عجباً للزمان في حالتيه/ وبلاء ذهبت منه إليه
رب يومٍ بكيت منه فلما/ صرت في غيره بكيت عليه
تظاهرت الجموع حينها، ولم يكن طموحها الحصول على خدمات كهرباء، أو سيولة في مصارف، أو وقود في محطات الوقود، أو اقتناء سلع أساسية بسلع مدعومة، فذلك كله كان متوفراً، ولو في حده الأدنى. كما أنّ الخروج لم يكن بغرض استبدال مستبدٍّ واحد بمجموعة تنتهج الأسلوب نفسه، وتتبع الطريق نفسه، بل كان أملها وضع أسس لدولة ديمقراطية حديثة ومزدهرة، وتستمتع بغد أفضل، تقام فيه دولة القانون التي تحتكم إلى دستور ينظّم العلاقة بين الحاكم والشعب، ويضمن تكافؤ الفرص في الحصول على الحقوق والواجبات، وذلك ما لخصه الشهيد القائد الميداني، محمد المدني، بداية الانتفاضة في مقولته: "ما خرجنا من بيوتنا كرهاً للقذافي في شخصه، لكن ثرنا ضد نظام كامل من الفساد".
ساهم كلّ بما استطاع في اجتماعاتٍ كانت شاهدةً على ضيق الأفق وتغليب المصلحة والمنفعة الشخصية، والسعي إلى الاحتفاظ بالسلطة
مرّت السنتان، الأولى والثانية، بعد نجاح الانتفاضة، وقد بدا للجميع أنّ ثمارها أتت أكلها، فشهدت البلاد هدوءاً وأمناً واستقراراً عقب تلك المواجهات المسلحة، ونُظمت انتخابات غابت عن المشهد السياسي الليبي أكثر من أربعين سنة، فانُتخب المؤتمر الوطني العام، وانُتخبت من خلاله حكوماتٌ استطاعت، في البداية، رسم ملامح الدولة المنشودة، إلّا أنّ الأمر لم يدم طويلاً، إذ تحالفت قوى عديدة، بتنسيقٍ أو من دونه، لتضع العراقيل أمام النجاحات التي حققتها الانتفاضة في بدايتها، فالدولة العميقة ما زالت لم تفقد الأمل في استعادة الوضع الذي كانت تتمتع فيه بالمزايا المجحفة سنوات، سيما أنّ كثيرين من عناصر هذه الدولة ما زال في مواقع اتخاد القرار، أو ما زالت مؤثّرة فيه، متفقة مع النخب السياسية الأخرى، خصوصاً التي أتت من خارج البلاد، بعدما اطمأنت وتأكدت من سقوط النظام، متعطشة للسلطة والقيادة، وهي ترى أنّها الأولى والأجدر بحكم البلاد، لتثبت الأيام أنّ الشعارات التي كان يرفعها كثيرون من هذه النخب ودعواتهم إلى مجتمع مدني يجري فيه التداول السلمي على السلطة، لم يكن سوى مدخل استعملته هذه النخب، لكسب ود الجماهير التي كانت في شغفٍ لسماع هذه العبارات التي حُرمت حتى من سماعها سنوات طويلة.
وصل من وصل إلى السلطة، سواء إلى البرلمان أو مجلس الدولة أو إلى السلطة التنفيذية، بطرق أصبحت إعادتها تبعث على شيءٍ من الملل، لكثرة تكرارها، وتشبث الجميع بالكراسي، متعللين بحجج سمجة، أصبحت تدعو إلى السخرية، تشبث أدّى، ولا يزال، الى تشظٍّ وانقسام من العسير تعداد المسؤول عنه، حيث ساهم كلّ بما استطاع في اجتماعاتٍ كانت شاهدةً على ضيق الأفق وتغليب المصلحة والمنفعة الشخصية، والسعي إلى الاحتفاظ بالسلطة، من تونس والصخيرات غربا إلى موسكو وأبوظبي شرقا، مرورا بعواصم عربية وغربية كانت، في أغلبها، وهو أمر منطقي ومتوقع، تبحث عن مصالحها، من خلال دعم طرف تضمن من خلاله مصالحها، وعادة ما تنتهي هذه الاجتماعات ببياناتٍ لا تخلو من القلق على الوضع الليبي، وحثّها الأطراف الليبية المتنازعة على تغليب المصلحة العامة، والتأكيد على وحدة التراب الليبي.
خرج آلاف المتظاهرين في معظم القرى والمدن الليبية، رافعين شعاراتٍ ولافتاتٍ طالبت كلّ الوجوه بالمغادرة
انتظر الليبيون أن يصل الفرقاء إلى كلمة سواء، يمكن أن تنهي الضنك الذي يعيشونه، والذي جعل كثيرين منهم يلجأون إلى متلازمة "النوستالجيا"، والتي يحنّون فيها إلى ماضٍ، ليس لكونه مثاليا، وإنما، لم يكن، على الأقل، بهذا السوء الذي وجدوا أنفسهم فيه عاجزين عن المتطلبات الأساسية والحقوق الأساسية، إلى الدرجة التي أصبح عدم انقطاع الكهرباء ساعات طويلة جميلا وترفا، يُحسب للمسؤول، ويحتسبه إنجازاً يُنسب إليه.
سنوات مرّت، لم يكن آخرها أفضل من أولها، لا المسؤول مستعدٌّ للإقرار بفشله، ولا الشعب يريد إعلان عجزه عن مواجهة المنظومة الحاكمة في الشرق والغرب، وسيطر اليأس على الكثيرين، إلّا أنّ الشارع الليبي، من دون مقدمات، انتفض في حراكٍ غير مسبوق منذ سنوات، إذ خرج آلاف المتظاهرين في معظم القرى والمدن الليبية، رافعين شعاراتٍ ولافتاتٍ طالبت كلّ الوجوه بالمغادرة، وأحرقوا صور كلّ متصدّري المشهد، وصبّوا جام غضبهم على كلّ الفرقاء، ووصل الأمر في طبرق إلى اقتحام مجلس النواب وإضرام النار فيه. وعلى المنوال نفسه، توجهت مجموعات من الغاضبين إلى مقر حكومة عبد الحميد الدبيبة، محتجين على تدهور الأوضاع المعيشية، ومندّدين بالفساد، بكلّ أنماطه ومظاهره، والذي أصبح حقيقة غالبة ونافذة، بعدما تراجعت أساليب رفضه، وأصبح متجذراً في غالبية المعاملات الحكومية، في ظلّ حماية مجتمعية، حتى صار ذلك من المألوف، ولم يعد سلوكاً مستهجناً.
الطريقة التي تعاطى بها المسؤولون مع هذه الاحتجاجات، ولم تختلف عن التي تعامل بها نظام القذافي، ويبدو أنها راقت لهم
في كلّ حال، ليس الغريب في خروج الجماهير إلى الشارع، والتظاهر ضد هذه الأجسام التي امتهنت إذلال المواطن، وهو أمر متوقع، حتى وإن تأخّر بسبب سيطرة المليشيات، ولكن المستغرب هو الطريقة التي تعاطى بها هؤلاء المسؤولون مع هذه الاحتجاجات، ولم تختلف عن التي تعامل بها نظام القذافي، ويبدو أنها راقت لهم، خصوصا وأن كثيرين منهم كانوا من المسؤولين في تلك الفترة، بل كان بعضهم في مراكز اتخاد القرار، ويشار إليهم بالبنان في تلك الحقبة، قبل أن يبدّلوا أثوابهم بعد انتفاضة فبراير، ويعودون إلى صدارة المشهد. ردود فعل لا تعدو كونها ضحكا على الذقون، واستخفافا بعقول الناس الذين، في المقابل، تلقوها بكل سخرية واستهزاء، فشمّاعة اختراق التظاهرات من مخرّبين وغوغائيين، اتفق فيها كلّ من الدبيبة وعقيلة صالح، رغم عدم اتفاقهما على أيّ شيء سنوات، فصرح عقيلة صالح، في لقائه مع إذاعة ليبيا المستقبل، واصفاً الحراك الشعبي في طبرق بأنه "أعمال شغب استهدفت مجلس النواب ويراد بها الفتنة"، متهما رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، وشقيقه، بالضلوع في عملية الاقتحام وحرق البرلمان "بعد انحراف تظاهرات الجمعة"، كما قال. أما الدبيبة، والذي يبدو أنه لم يع بعد أنه على رأس السلطة التنفيذية، وبالتالي، فهو المسؤول الأول عن تردّي الأوضاع المعيشية، حيث أعلن في تعاطيه مع هذه التظاهرات، قائلا إنه يضم صوته للمتظاهرين في عموم البلاد. مضيفا "على جميع الأجسام الرحيل بما فيهم الحكومة، ولا سبيل إلى ذلك سوى الانتخابات". متناسيا أن وجوده على رأس السلطة التنفيذية لم يكن عن طريق الانتخابات الشعبية، بل جاء نتيجة للانتخابات "الستيفانية" (نسبة إلى ستيفاني وليامز، رئيسة بعثة الأمم المتحدة). أما وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية فلم تدّخر جهدا هي الأخرى في ترحيبها بالتظاهرات، حسب ما صرّحت، ووصفتها بأنّها "روح جديدة في عروق ليبيا". وفي إشارة إلى تحكّم الخارج في المشهد، أضافت: "سأحمل مطالبكم معي في كلّ لقاءاتي، حتى يسمع العالم صوتكم". في استخفاف آخر بصوت المتظاهرين الذي يريدونه أن يصل إلى مسامعها، قبل أن يسمعه الآخرون في الخارج.
ختاماً، وعلى الرغم من تراجع زخم هذه الاحتجاجات، بسبب أو بآخر، والتراجع عن التهديد بالتصعيد، وإعلان العصيان المدني على كامل التراب الليبي، فإنّ الوضع ما بعد هذه الاحتجاجات، وكسر حاجز الخوف من المليشيات، لن يكون كما كان قبلها، وأن متصدّري المشهد والمتسببين في الانسداد السياسي لن يكون من السهل لهم التهرّب من استحقاقات الإصلاح الحقيقي بالتسويف والمماطلة، وأنّ الشارع قادر على قلب الموازين، وتغيير رأي الدول التي يحتمون بها، ويخطبون ودّها على حساب تطلعات الشعب الليبي، وحقّه في أن يعيش حياة كريمة، بعدما ملّ من الوعود الوهمية.