عندما تتجدّد الأزمة في ليبيا
لعل سيناريو ما بعد فشل انتخابات ديسمبر/ كانون الأول الماضي في ليبيا كان مرسوما له منذ فترة ليست قصيرة. هكذا اتضحت في متقلبات المشهد الليبي اليوم، حكومة جديدة، ورؤى غير واضحة في رسم المشهد السياسي الليبي من أجسام تحتاج إلى التجديد منذ سنوات وسنوات. يتكرر المشهد اليوم بسيناريو جديد مُحدّث عن سابقه، في محاولة للاستحواذ على الساحة السياسية الليبية التي يطالب المجتمع الليبي فيها بإعادة الشرعية إلى أهلها وتحقيق الانتخابات البرلمانية في أقرب الآجال، وليس العمل على "توافق" بين طرفين نقيضين، لا يملك كل منهما الشرعية في إدارة البلاد، بل على النقيض من ذلك، باعتبار أن الاتفاقات السياسية التي أوجدتهم يمكن أن تعتريها اتفاقاتٌ أخرى تقصيهم من المشهد كذلك، وهذا ما حدث في حوارات جنيف وبرلين وتونس، وإنْ كانت ليست على الإطلاق، وإنما تحدّد الخريطة التي يمكن أن تسير عليها هذه الأجسام. وبالتالي، الحديث عن توافق يؤسّس لمرحلة مقبلة وانتقالية في ليبيا هش وليس حقيقيا، بل ربما هو توافق مصطنع، براغماتي بين تلك الأجسام لا أكثر، الأمر الذي سيقود البلاد إلى مزيد من الانهيار والدخول في صراعاتٍ لا تُحمد عقباها.
يعدّ اليوم الحديث عن أجسام تنفيذية جديدة، من دون التراجع خطوة إلى الوراء والنظر في المسببات التي أفسدت انتخابات 24 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بمثابة إعادة السيناريو الماضي، وليس تحقيقا للتوافق، وصولاً إلى الانتخابات وتجديد السلطة التشريعية في البلاد. ولقراءة المشهد الحالي، لا يمكن القفز، كما ذكرت، عن مسببات الفشل السابقة، والتي تتركز في الآتي:
- عدم قدرة البرلمان والمجلس الأعلى للدولة على التوافق على قاعدةٍ دستوريةٍ يمكن أن تجرى الانتخابات وفقاً لمحدّدتها، أو حتى التوافق على الرجوع إلى مصدر دستوري لمرحلة محدّدة تنهي الاختلاف على القاعدة الدستورية، التي لم ولن ترى النور بالتوافق الحقيقي.
الحديث عن توافق يؤسّس لمرحلة مقبلة وانتقالية في ليبيا هش وليس حقيقيا
- استفراد البرلمان، بل أعضاء من البرلمان، بإصدار قوانين انتخابية أحادية الجانب بعيدة عن التوافق بين أعضائه، ناهيك عن التوافق بينه وبين المجلس الأعلى للدولة، فما بالك بالرضى الشعبي عليها والقبول بها حَكماً في تسيير العملية الانتخابية.
- عدم توفير بدائل حقيقية لما بعد فشل الانتخابات في وقتها، من كلا الجسمين، وإنما الاكتفاء غير العلني بالاستمرار في المشهد، وإن كان ذلك يسبب احتقانا شعبيا من أبناء المجتمع، والنخب الفاعلة فيه التي تسعى إلى إنهاء هذه الأجسام، وصولا إلى إنهاء المراحل الانتقالية التي يريد لها فاعلون في المشهد السياسي الليبي أن تتكرر، من دون النظر إلى استقرار البلاد ومصلحة بنائه والولوج إلى مرحلة دائمة تبني الدولة على أسسٍ سليمةٍ وصحيحة.
لا يحتاج الليبيون إلى "توافق" ولا إلى "محاصصة" ولا إلى "جهوية"، بقدر ما يحتاجون مشروعا وطنيا يتجه إلى بناء الدولة واستقرارها
تعدّ هذه أهم الأسباب التي أفشلت نجاح العملية الانتخابية في المدة الماضية في البلاد. وعند النظر إليها بكل حياد وتجرّد نرى أن السبب الرئيسي الذي يجمع هذه المسببات هو عدم التوافق بين الجسمين التشريعيين في البلاد. وبالتالي، لا يمكن القبول بالحديث اليوم عن "التوافق" لا في المسار الطبيعي الذي يمكن أن يحقق نتائج فاعلة على الأرض، وإنما يكون توافقيا براغماتيا أكثر منه شيئا آخر، بدليل فشل كليهما في التوافق على قاعدة دستورية خاضت فيها لجانهم شهوراً، وكان الوقت منحازا لهم، ولم يستطيعوا تحقيق ذلك، وكذلك عدم قدرتهم على التوافق على تغيير المناصب السيادية التي حاولوا مرارا وتكرارا العمل عليها، ناهيك عن الاختلاف في القوانين الانتخابية التي أريد لها أن تكون أمرا واقعاً، ولم يعرف الاتفاق لها طريقاً بين كلا الجسمين.
اليوم، لا يحتاج الليبيون إلى "توافق" ولا إلى "محاصصة" ولا إلى "جهوية"، بقدر ما يحتاجون مشروعا وطنيا يتجه إلى بناء الدولة واستقرارها، يبدأ من تجديد الأجسام التشريعية في البلاد، وإنهاء الانقسام بشأنها، وصولا إلى حكومة حقيقية تستمد قوتها من القاعدة الشعبية، وليس من الحوارات السياسية، والمحاصصات الجهوية، والبراغماتية السياسية. وبخلاف ذلك، الدوامات السياسية التي تكرّر نفسها هي التي ستكون سيدة المشهد في قابل الأيام.