علي الهادي طليس مواطن لبناني طبيعي
كان الشاب اللبناني علي الهادي طليس في عزّ انطلاقته، وربما على وشك نيل وسام جمهوري ذهبي، والسبب أنه أنزلَ شريط فيديو يعلن فيه إنه، هو ابن التاسعة عشر عاماً، سجّل لدى موسوعة غينيس ثلاثة أرقام قياسية: أصغر مهندس في العالم، أصغر مخترع، وأصغر محاضر جامعي. وأُلحق هذا الشريط بآخر يزّف إلينا "الخبر السعيد" نفسه، على تطبيق "تيك توك"، مصدر الأخبار شبه الوحيد لغالبية الشباب والمراهقين المواظبين على الشبكة.
فرحت قرية بريتال البقاعية، مسقط رأس علي، حيث يعيش ويتابع تعليمه في مدرستها. إنهالت عليه التهاني، ورُفعت اليافطات على مداخل القرية. وغصّت مواقع التواصل بالتبْريكات: "عبقري من داخل لبنان"، "مبدع من بلادي"، "الطائفة أنتجت عبقرياً آخر بعد حسن كامل الصباح" (مخترع لبناني من عصر آخر، 1894-1935، حاصل على عشرات البراءات العالمية لاختراعاته الحقيقية). وتقدَّم المهنئين نائبان لحزب الله من المنطقة. إبراهيم الموسوي: "المبدع الذي حفر إسمه في موسوعة غينيس للأرقام القياسية". ينال صلح: " إبن بلدة بريتال المقاوِمة، إبن بلدة بريتال المحرومة (...) نموذج لشباب محافظة بعلبك الهرمل بشكل خاص"...
كان يمكن للاحتفالات أن تتسّع، ويصل علي طليس إلى قمّة مجد يتطلّع إليه. ولكن شاء الفضول الإعلامي، أو ربما شيء آخر معه، أن يكشف أن اختراعات علي طليس وهمية. اتصلت قناة الجديد بإدارة "غينيس"، وسألتها عن فوزه بها، وبقياسيتها، فنفَت الإدارة حصول علي طليس على ألقاب، أصغر مهندس، مخترع، دكتور...
كادَ علي أن يحصل على الميدالية الذهبية لولا هذا التكذيب، فيصاب بالخيبة، يبْتلع انكشافه، ويصمت، أو يختبئ. ولكن لا، وألف لا. اعتبر انه يتعرّض "لحملة سياسية" ضده. بل أضاف إنه منذ الخامسة عشر من عمره وهو يخترع، وانه قام بمشاريع كثيرة.
ردُّ علي طليس على تكذيب اختراعاته نموذج مصغّر من التعايش مع الكذب بكذب أكبر
أهل القرية الذين سبقَ واحتفوا به احتضنوه وثابروا على تصديقه، فتشبَّثوا باختراعاته وأرقامه القياسية المزيَّفة. وهم بذلك، على ما يتصوّرون، يدافعون عن سمعة القرية الأمنية، السيئة، عن هويتهم وولاءاتهم. فيما نوابهم المنْبهرون بالاختراعات والأرقام توقفوا عن الثرثرة. صحافة الممانعة عذرته، لطيْشِه الشبابي، وسألت أستاذاً جامعياً متخصّصاً بالإعلام عن رأيه في واقعته. أبدى هذا الأخير تعاطفه معه، و"فسّر" سلوكه بأنه "شاب طموح"، وأن مشكلته هي التباس الأمر عنده "بين الحلم والواقع". نبيه برّي، زعيم حركة أمل، حليف حزب الله وخصمه، سجّل نقطة في مرمى الأخير عندما رفضَ استقباله بعد ذيوع خبر غشّه.
وصار علي هادي طليس معروفاً باسم "المخترع"، وعادت الأمور إلى نصابها. وبقي السؤال:
من أين يستمدّ علي طليس وحْيه؟ هو المعروف بـ"ذكائه"؟ .. من مصادر لا تُحصى. من مدرسته بدايةً، ثانوية بريتال الرسمية، المجانية. كان مكتوباً لها أن تكون أحسن ثانويات المنطقة. وذلك بفضل كوريا الجنوبية التي موَّلت تجهيزها بتكنولوجية حديثة. وضع حزب الله يده عليها، تحكَّم بإدارتها، فتحوّلت إلى أفشل الثانويات. تستقبل سبعين طالباً، بعدما كان يتجاوز طلابها الألف. وعلي كان يرفَّع من صفٍّ إلى آخر، تلقائياً، كما يحصل في عديد من ثانوياتٍ كهذه. يحبه الأساتذة لـ"ذكائه"، فيتميَّز عن الباقين. ومع ذلك، الحياة مستمرّة وحزب الله لا يخسر ولا مقعداً فيها. فالأهالي كلهم مع الحزب، بمن فيهم علي. ولذلك، استمرار الثانوية على قيد الوجود، وبهذا الرضا اللطيف، يستوجب تكاذباً حول تفاصيلها الروتينية اليومية، تواطؤاً على نتائجها، بين الأستاذة والتلاميذ، بين الأهالي والإدارة، يحيي مَلَكة الغشّ بأريحية. خصوصاً إذا كان الغشّاش الذي يريد أن يغشّ الغشاشين شاباً مقنعاً، "ذكي" و"طموح".
حبائل كذب مجدولة بحبائل أخرى، كذبات صغيرة معشّقة بأخرى عريضة
ردُّ علي طليس على تكذيب اختراعاته نموذج مصغّر من التعايش مع الكذب بكذب أكبر. ربما هذا هو نوع ذكاؤه. لا يقول إن المدرسة حطّمت طموحاته، إنما القناة التلفزيونية تقوم بـ"حملة طائفية" عليه. تماماً مثلما يفعل نواب قريته، بندواتهم ومكْلماتهم التي تكذّبها الوقائع، ويحولها، هو "الذكي"، إلى مقالب على هذا الواقع، سكتَ عنه أهله، كما يسكتون عن كذبات نواب قريتهم، ويبصمون. إنه النوع ذاته من التواطؤ القائم بين حزب الله وبيئته.
وعلى نطاق أوسع، على مكبَّر، الينابيع لا تنْضب، فائض من الغشّ: انتصارات متخيّلة، مصوَّبة نحو غير أهدافها المعلنة، مخالفة القانون باسم القانون، إذكاء الفتن باسم إخمادها، تغطية على مجرمين صغار وكبار ومتوسّطين، محسوبين... حبائل كذب مجدولة بحبائل أخرى، كذبات صغيرة معشّقة بأخرى عريضة .. كله، وغيره الكثير، يتعايش مع بعضه في نغمةٍ فوضويةٍ عارمة، لا تعود تعرف فيها الصادق من الأفّاق، وأنتَ واقع في مخالِبها.
ماذا تريد ساعتها أن يحصل مع شاب جموحٌ و"ذكي"، نال الاعتراف بوجاهته في مجتمعه المصغّر، محروم من التعليم الحقيقي، في هذه البيئة الواسعة الضيقة، ماذا تتصوّر أن يفعل من أجل تحقيق طموحه في توسيع دائرة الاعتراف نحو أفق عالمي؟ أن يكون عفوياً، فيغرف "لمْعاته" من حفلة الكذب الشمولية هذه. إنه مواطن لبناني طبيعي. غير ذلك، سيغرق مثل أهله في الهمّ والغمّ والحزن والعزلة والهروب التام، ومعهما، أو من دونهما، سينتظر "الوقت والمكان المناسبَين".