على هامش القمّة من أجل الديمقراطية .. أفكار وقضايا وتأملات
يمثل انعقاد القمة من أجل الديمقراطية يومي 9 و10 ديسمبر/ كانون الأول الحالي فرصة للتأمل في مسارات السياسة العالمية تجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي. لقد تعهد الرئيس الأميركي، جو بايدن، وقت أن كان مرشّحاً، بالدعوة إلى هذه القمة لتجديد التزام الولايات المتحدة بالديمقراطية داخلياً وخارجياً. وهو الأمر الذي شدّد عليه في مقاله في مجلة فورن أفيرز، نشر في مارس/ آذار الماضي، تحت عنوان "لماذا على أميركا أن تقود من جديد". ستشارك في هذه القمة حكومات 110 دول، بينها دولة عربية وحيدة، العراق. ولم يخل اختيار هذه الدول من تناقضات؛ فعلى الرغم من الإعلان الأميركي أن القمة للديمقراطيات فقط، والحكومات الملتزمة بها، فقد تمت دعوة حكوماتٍ معروف عن قياداتها النزوع إلى الشعبوية والعداء لحكم القانون وحقوق الإنسان، لاعتبارات أميركية أمنية واستراتيجية، مثل بولندا والهند والفيليبين، كما أن إسرائيل من ضمن المدعوين إلى القمة، بصرف النظر عن سياساتها العدائية لحقوق الإنسان والقانون الدولي دولة احتلال. وفي إطار التفاعل مع القمة، صدرت منذ أيام "رسالة المجتمع المدني في العالم العربي إلى القمة من أجل الديمقراطية"، وهي خلاصة نقاشاتٍ دارت في المنتدى الخامس والعشرين لحركة حقوق الإنسان في العالم العربي، وعقد في 16 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) بمبادرة مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان وتنظيمه. ويقدّم الإعلان مجموعة من التوصيات "لضمان مقاربة مستديمة ومتسقة للدفع بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان".
أتيحت الفرصة لكاتب هذه السطور للتفاعل القريب مع الفعاليات الدولية والإقليمية للمجتمع المدني المرتبطة بدعم الإصلاح وحقوق الإنسان في العالم العربي منذ منتصف عام 2004. في ذلك الوقت، كانت قضية دعم الديمقراطية موضوعا لمبادراتٍ من الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، مجموعة دول الثماني، وقمّة دول حلف الأطلنطي (الناتو)، لكنها توقفت عند حدود كونها مبادرات إعلانية لم تعكس أي تغير نوعي في الإرادة السياسية لهذه الحكومات لإعطاء أولوية للأجندة الحقوقية في التعامل مع حكومات المنطقة. وقتها حرص قطاع هام من منظمات حقوق الإنسان الوطنية والإقليمية العربية على التفاعل مع هذه المبادرات، وتقديم تصوّراتها وتوصياتها لما يمكن القيام به لدعم الديمقراطيين والحقوقيين العرب في نضالاتهم من أجل التغيير. وعلى الرغم من اختلاف السياقات السياسية بين الماضي والحاضر، إلا أن المشترك في رسائل المجتمع المدني العربي على مدار هذه السنوات هو الشعور بخيبة الأمل من المفارقات الأخلاقية المتكرّرة التي تسقط فيها الدول الغربية، عندما يتعلق الأمر بالانتصار لحقوق الإنسان في المنطقة العربية، والفجوة العميقة بين الخطابات والأفعال في سياساتهم تجاه شعوب المنطقة ودولها.
الاتحاد الأوروبي غير قادرٍ بعد على مواجهة التهديدات من داخله، والمتمثلة في صعود نزعات شعوبية وسلطوية في كلٍّ من المجر وبولندا
سياقات دولية وإقليمية مضطربة
يتجدد النقاش اليوم، بالتزامن مع القمة من أجل الديمقراطية، بشأن السياسات الغربية تجاه حقوق الإنسان والديمقراطية في البلدان العربية، مع اختلاف جذري للسياقات السياسية الدولية والعربية، في ظل مشهد سياسي إقليمي ودولي، يمكن اعتباره أكثر تعقيداً من سنوات ما قبل الربيع العربي، فعربياً تواكب انحسار الثورات العربية، مع توحّش غير مسبوق للسلطويات العربية القديمة والجديدة، وتجدّد في تقنيات القمع ونطاقه، مع تبنّي سياسات وقائية سريعة وحازمة لمنع ومواجهة أي حراك مجتمعي مطالب بالتغيير، وحتى محاصرته في دول الجوار العربي. وقد وظّفت هذه السلطويات كل الأدوات المتاحة لامتصاص الضغوط الخارجية والدولية، سواء عبر تكثيف التعاون الإقليمي والدولي، وعدم التردّد في استهداف الناشطين لما هو وراء حدود الدولة في ما أطلقت عليه منظمة فريدم هاوس في أحد تقاريرها الحديثة "الاستبداد العابر للحدود"، أو الاستعانة بقوة عسكرية أجنبية لمواجهةٍ غاشمةٍ لشعوبها، كما هو الحال في سورية، أو التدخلات الخارجية المباشرة لقوى إقليمية، للتأثير على مسارات الصراعات الداخلية، بما يخدم مصالحها الجيوسياسية، كما هو الأمر في اليمن وليبيا، أو توظيف ورقة تعميق التطبيع مع إسرائيل، للتأثير على توجهات القوى الغربية تجاه أنظمتها الحاكمة، وهو التوجّه الذي هرولت إليه بلدان عربية كثيرة خلال العامين الأخيرين. وعلى المستوى الدولي، نجد الموجة العالمية لانحسار الديمقراطية وحكم القانون، والتي طاولت البلدان الغربية ذاتها، فالاتحاد الأوروبي غير قادرٍ بعد على مواجهة التهديدات من داخله، والمتمثلة في صعود نزعات شعوبية وسلطوية في كلٍّ من المجر وبولندا. وفي هذا العام (2021) وقعت انقلابات عسكرية في مالي وغينيا وتشاد وميانمار والسودان، فضلاً عن أزمه التحوّل الديمقراطي في تونس.ودفعت هذه التطورات المجتمع المدني العربي في إعلانه إلى قمة الديمقراطية إلى اقتراح "الامتناع عن تقديم أي دعم سياسي أو اقتصادي للأنظمة المجهضة للانتقالات الديمقراطية عن طريق انقلابات عسكرية أو أي طرقٍ أخرى"، و"اقتراح وجود آليات أممية جديدة لمعالجة التدخلات العسكرية والسياسية في الدول التي تمرّ بمراحل انتقال ديمقراطي". من ناحية أخرى، بدا واضحاً أن الدور الصاعد للتحالفات العابرة للحدود بين السلطويات أصبح قادراً على إحداث شلل في سياسات حقوق الإنسان الدولية، وإحداث اختراقاتٍ داخل البلدان الغربية ذاتها، والتي تشهد، منذ سنوات، انحساراً في الأدوار القيادية التي يمكن أن تقوم بها في الملف الحقوقي دولياً. وتكفي الإشارة إلى إخفاق المجتمع الدولي في وقف النزاع المسلح في اليمن، وفي التعامل مع تداعياته الإنسانية، بل حتى عدم القدرة على توفير حماية لفريق الخبراء البارزين المعني باليمن، الآلية الأممية الوحيدة التي تشكلت بصعوبة عام 2017 لرصد (وتوثيق) الجرائم المرتكبة بواسطة الأطراف المتحاربة في اليمن، بعد نجاح التحالف السعودي - الإماراتي في إنهاء عملها بقرار من مجلس حقوق الإنسان في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
إحدى القضايا المحورية للقمة ترتبط بحريات الإنترنت، ومن بين المشاركين فيها حكومات معروف عنها تصدير تقنيات التجسس ضد الحقوقيين أو استخدامها
مسؤولية أميركا وحلفائها الأوروبيين
قد تكون مبادرة بايدن لعقد القمة العالمية من أجل الديمقراطية فرصةً لمراجعةٍ نقديةٍ شاملة، لكنها تتطلب بدايةً تقييما جذريا لمسؤوليات الدول الراعية والمشاركة في القمة، ومن بينها الولايات المتحدة، عن انحسار الديمقراطية وحقوق الإنسان عالمياً. تكفي الإشارة هنا إلى بعض الوقائع التي تكشّفت حديثاً في سياق التحضير للقمة، في مقدمتها الفضيحة المدوية في الوثائق المسرّبة التي نشرها موقع ديسكلوز الفرنسي، أخيرا، عن التورّط المباشر للسلطات الفرنسية في عدة جرائم ارتكبها الجيش المصري ضد المدنيين في مصر في إطار ما تعرف بـ"الحرب على الإرهاب". وعلى إثر هذه الفضيحة، تقدّم قبل أيام نواب في الكونغرس الأميركي، أبرزهم الديمقراطي توم ماليناوسكي، والمشكلون ما يعرف بتكتل حقوق الإنسان في مصر، بطلب للإدارة الأميركية للتحقيق في إساءة مصر استخدام معدّات عسكرية أميركية مثل طائرات F16 وCessna 208 في هذه الجرائم. بالنسبة للمدافعين عن حقوق الإنسان في مصر، لم تكن هده التسريبات مفاجئة، فقد تقدّمت منظمات مصرية ودولية كثيرة، في مناسبات عدة في الأعوام الخمسة الأخيرة، بتقارير موثّقة عن مساهمة الصادرات العسكرية من الدول الغربية في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مصر. الأمر نفسه المرتبط بتصدير القمع أثير، أخيرا، بشأن نقل شركات فرنسية وإسرائيلية تقنيات التجسّس، والتي استخدمت ضد المدافعين عن حقوق الإنسان ودعاة الديمقراطية في فلسطين ومصر والإمارات والمغرب. ومن المفارقات أن إحدى القضايا المحورية للقمة ترتبط بحريات الإنترنت، ومن بين المشاركين فيها حكومات معروف عنها تصدير تقنيات التجسس ضد الحقوقيين أو استخدامها.
من ناحية أخرى، حان الوقت بعد مرور عشرين عاماً على وقوع أحداث "11 سبتمبر"، للاعتراف بالآثار التخريبية التي أحدثتها الحرب على الإرهاب على تطبيق حكم القانون، وتوفير غطاء سياسي متجدّد للممارسات السلطوية ولجرائم حقوق الانسان الجسيمة في بلدان كثيرة، وفي مقدمتها بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الأمر الذي جعل بيان المجتمع المدني العربي لقمة بايدن يصدر تحت عنوان "لا تجديد ديمقراطيا من دون إصلاح لنهج مكافحة الإرهاب". والنداء نفسه أطلقته في مناسبات عديدة للمجتمع الدولي مقرّرة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في أثناء مكافحة الإرهاب أستاذة القانون الأيرلندية فيونوالاني أولاين. لم تؤدّ سياسات مكافحة الإرهاب إلى استغلالها بشكل فجّ، لنعت المعارضين والحقوقيين، من بينهم محامون وصحافيون بالإرهاب فحسب، بل إنها فتحت الباب على مصراعيه أمام تعطيل القانون ذاته، واستباحة تدابير مثل القتل خارج نطاق القانون، والاختفاء القسري والتعذيب. وتكفي الإشارة، في هذا السياق، إلى التقرير الذي أصدرته "هيومان رايتس ووتش" في سبتمبر/ أيلول الماضي عن قتل وزارة الداخلية في مصر عشرات الأشخاص بشكل غير قانوني، وخارج نطاق القضاء في إطار عمليات مكافحة الإرهاب.
لم تمنع الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الداخلية النظام الحاكم في مصر من احتواء الأطراف الخارجية عبر تحالفاته الدولية والدعم الإقليمي
الصدام المتجدد بين الحقوق والمصالح الاستراتيجية
ما يمكن استخلاصه من تجارب الماضي والحاضر أن تبنّي حقوق الإنسان والديمقراطية في السياسات الخارجية في معظم الأحيان يصطدم مع منظور الدول لمصالحها الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية، وهي الحقيقة التي يدركها حقوقيون عرب كثيرون، والتي تتضح بجلاء في الإعلان الصادر أخيرا عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. من ناحية أخرى، مكّنت طبيعة النظام الدولي اليوم دولا سلطوية كثيرة لأن تكون لديها قدرات على إضعاف أثر الضغوط الخارجية المتعلقة بملف حقوق الإنسان أو احتوائها، حتى مع افتقاد بعضها الموارد الاقتصادية والمالية التي تعزّز من موقفها إزاء هذه الضغوط، فمثلاً دولة مثل الإمارات، والتي فعليا وبدون مبالغة، يقبع بداخلها جميع الحقوقيين ودعاة الإصلاح في السجون منذ عام 2012، قليلا ما تُواجَه بضغوط في سجلها الحقوقي، اعتمادا على مواردها الاقتصادية والمالية، وتحالفاتها الدولية والإقليمية، والاختراقات التي حققتها في المجتمعات الغربية. وقد أصدر البرلمان الأوروبي قراراً في سبتمبر/ أيلول الماضي يعدّ الأول من نوعه عن حقوق الإنسان في الإمارات، لكنه مرّ من دون اهتمام، ولم يؤثر على مواقف الدول الغربية من واقع حقوق الإنسان في الإمارات، ولم يُحدث أي أثر يذكر في السياسات الحقوقية داخل الإمارات. كما كشفت تقارير أخرى من خبراء في الأمم المتحدة، وتسريبات إعلامية حديثة، عن تحويل الإمارات مروحيات وطائرات حربية ومعدّات عسكرية إلى قوات الجنرال المتمرّد، خليفة حفتر، في ليبيا منذ عام 2015، تحت مرأى ومسمع بلدان غربية من بينها فرنسا، في انتهاك للحظر الدولي المفروض على صادرات الأسلحة إلى ليبيا مند 2011.
وفي مصر، لم تمنع الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الداخلية النظام الحاكم في مصر من احتواء الأطراف الخارجية عبر تحالفاته الدولية والدعم الإقليمي، والتوظيف المكثّف لخطاب مكافحة الإرهاب، وتعميق التعاون الأمني والعسكري، وإبرام الصفقات العسكرية مع الدول الغربية الأكثر تأثيراً. وعلى الرغم من الحراك الدؤوب والشجاع التي تقوده حركة حقوق الإنسان المصرية داخليا وخارجيا لمحاصرة النظام في ملف حقوق الإنسان، إلا أن الآثار ظلت محدودة، في ظل غياب الدعم السياسي والأخلاقي المطلوب من حلفاء النظام المصري دولياً، ونجاح السلطات المصرية خلال السنوات الخمس الأخيرة في تصفية القوى السياسية المعارضة، والحصار الشامل للمجال العام.
يتطلّب من البلدان الغربية إدراك أن قضية حقوق الإنسان اليوم في المجتمعات العربية أصبحت في صدارة محدّدات الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي
وبصرف النظر عن مآلات القمة العالمية للديمقراطية، وجدّية ما سوف يتمخّض عنها، فإن التحدّي الاستراتيجي الذي يواجه الحقوقيون ودعاة الديمقراطية العرب هو كيفية إحداث تغييراتٍ في المنظور الدولي لأهمية قضية حقوق الإنسان في المجتمعات العربية. لقد واجهت حركات حقوق الإنسان تحدّيا مماثلاً في دول أميركا الوسطى واللاتينية في عقدي الستينيات والسبعينيات مع انتشار الانقلابات العسكرية هناك في سياقات الحرب البادرة، في الضغط على الولايات المتحدة والدول الأوروبية لتغيير منظورهم إلى أنظمة الحكم في تلك المنطقة، وتبنّي أجندة حقوق الإنسان في السياسة الخارجية. وقد لعب الحقوقيون وشبكات المناصرة العابرة للحدود، ولجان التضامن الدولية، أدواراً هامة، خصوصا في المهجر في التغيير التدريجي لتوجهات العواصم الغربية تجاه الأنظمة العسكرية في أميركا اللاتينية. وعلى الرغم من أهمية هذا الحراك الحقوقي، إلا أنه لم يكن كافياً وحده في إحداث هذا التغيير، فالتوازنات الاستراتيجية والأمنية التي كانت تحرّك صناع القرار الأميركي والغربي بشكل عام تجاه دول أميركا اللاتينية أو شرق أوروبا بعد انتهاء الحرب الباردة تختلف، بلا شك، في دوافعها ومحفّزاتها السياسية والاستراتيجية عن رؤيتهم اليوم إلى مصالحهم الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. من ناحية أخرى، تختلف البنية الراهنة للعلاقات الدولية جذرياً عن حقبتي الثمانينيات والتسعينيات. ففي الوقت الحالي، تتعدّد وتتداخل مصالح الفاعلين الدوليين في ظل انكماش التأثير الدولي الأميركي والأوروبي. خلاصة القول إن إحداث تغيير في المنظور الغربي يتطلب من المجتمع الحقوقي والديمقراطي العربي طرح رؤى وبدائل سياسية معتدلة وقادرة على استيعاب المتغيرات الدولية الراهنة، كما يتطلّب من البلدان الغربية أيضاً إدراك أن قضية حقوق الإنسان اليوم في المجتمعات العربية لا يبرّرها فقط مجرد الانحياز للمثل والقيم، بل إنها أصبحت، وعلى واقع تجارب وخبرات ما قبل الربيع العربي وما بعده، في صدارة محدّدات الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي.