عصرنا يمدّ بعمرنا وينكّل بمن أصيب بنعمته
ها قد تحقّقت إطالة عمر الإنسان، بالتقدّم العلمي والتكنولوجي. وحبْل الإطالة على الجرّار. من خمسين إلى ستين إلى... المئة، كما يعِدنا علماء الشيخوخة. والأرجح أنهم سيستعينون بالذكاء الاصطناعي ليمدّ أعمارنا إلى ما بعد المئة أو المئتين. إلا أن كل هؤلاء الزائدة أعمارهم، والمتزايدة أعدادهم بفضل جهود ذاك العلم الذي نعتزّ به، هؤلاء أصبحوا يشكّلون مشكلة ذات أوجه، منها أنّ حضورهم صار يرهق الاقتصاد، وغيابهم ينعشه:
في الإرهاق: إنهم بلغوا نسبة سترتفع في السنوات المقبلة، مقابل تناقص نسبة الولادات الجديدة، كما في الصين وأنحاء أوروبا وأميركا؛ إذ كيف ستسدَّد نفقات استمرارهم على قيد الحياة؟
في النعمة: إنهم تراجعوا عن الوجود وأصبحوا أقلية عددية مقابل صعود نسبة الشباب، كما في الهند، التي صارت خامس اقتصاد في العالم، وأعلى عدداً بين سكانه (مليار ونصف). ومن أسباب ازدهارها الصاعد، أن 72% من سكانها هم تحت الثلاثين. ما يجعلها، حسب الخبراء، منافسة أولى للصين بفضل هؤلاء الشباب.
بعد عددهم، ثمّة مشكلة في كَبْرهم؛ إنهم في عصر العمر الطويل يعانون من التمييز والعزلة. يشبه وضعهم بؤساء القرون الوسطى المصابين بمرض الجذام، الذين كانوا يُرمَون في "مستشفيات" أو مستودعات خاصة بهم، منفصلة عن بقية السكان الأصحاء.
ماذا يفقدون مع تقدم عمرهم؟ كل ما كانوا يتمتّعون به في شبابهم: أي الجمال والصحّة وصفاء العقل والحياة الجنسية. الجمال خصوصاً، رغم التقدّم الطبي الآخر الذي يُصلح الوجوه والأجساد بالحقن والبروتيز والجراحة، وكلها تحوّل الشيوخ من نساء ورجال إلى عرائس خالية من النضارة والتجاعيد.
بعد عددهم، ثمّة مشكلة في كَبْرهم؛ إنهم في عصر العمر الطويل يعانون من التمييز والعزلة
حسناً، أمام إنسان واحد من اثنين: إما يموت شاباً، أو يتقدّم بالعمر. وهما مصيران محتّمان، ولا يمكن تجنّبهما إلا في حالة الانتحار. ومع خسارة هذه المَلَكات الأربع، ينخفض نشاط المتقدّم بالعمر، تتراجع وجاهته، يتغيّر موقف العالم من حوله؛ فيكون عرْضة للإحباط والتشاؤم والعزلة وتجاهل المحيط. ويبدو كأنه دخل إلى غيتو قديم، غير مرئي؛ إنه تهميش جماعي وفردي، صريح ومستتر. ينطوي على عيبَيْن: عيب صاحب العمر، وعيب التكلّم عن هذا العيب.
كشفت جائحة كوفيد أوجهاً من هذه الحالة. كادَ المسنّون وقتها يُتَّهمون بأنهم هم وراءها، ما سهَّل انكشاف كل عثرات مؤسّسات "العناية بالكبار" ومعها عواقب تراجع الدول عن مهامّها الصحية، تجاه الكبار والصغار على حدّ سواء. وطفت على السطح عبارة "التمييز ضد كبار السن" (آجيسمْ)، وغرق ملايين الشيوخ في الحزن والعجز والأسى. فكان تقرير الأمم المتحدة الدوري في يوم المسنِّين (أول أكتوبر/ تشرين الأول). ليس جديداً، ولكن هذه المرّة انتشر على نطاق واسع. وهو يقول: إنه واحد من كل شخصين في العالم يتبنّى سلوكيات التمييز ضد كبار السن. ما يصيبهم بصحتهم النفسية والجسدية، ويصيب مستوى معيشتهم، ويكلِّف مجتمعاتهم ملياراتٍ من الدولارات. ويضيف أن حالات هذا التمييز لا تقتصر على "التصوّرات الفردية"، إنما هي جماعية، تزدحم بها قطاعاتُ الصحة والخدمات والعمل والإعلام والنظام التشريعي.
وسط هذا البؤس، يهبّ الكتّاب والمؤثرون والجمعيات في صياغات أدبياتٍ كثيرة، كلها تريد أن تقول للمسنّ إنه يمكنه تجاوز عقبات عمره. وكلها تقلّد تلك المنشورات التي تعلّمك كيف تكون أذكى، أو أجمل، أو ألطف، أو كيف تكون طبختك ناجحة وحديقتك مخضرة... خذْ عناوينها: فن الشيخوخة الجميلة، علم الشيخوخة، الجوانب الإيجابية في الشيخوخة، إعادة النظر بكليشهات الخاصة بكبار السن، نصائح وحِيَل لشيخوخة سعيدة، الوقاية والحِيَل لشيخوخة صحية، الرفاهية والتأقلم لدى الشيوخ، كيف تحقّق الشيخوخة السعيدة، إلخ. ونحن نتكلم هنا عن الشريحة "الجماهيرية"، المسن - المواطن البسيط، ودونه، المسنّ الذي يقع في الأسفل من السلّم الاجتماعي. أما في أعلى السلّم، فلا يتوقّف المسنّون من إدهاشنا، ومن قلب مظالمنا.
جديد الأخبار المثيرة أخيراً، اقتران النجم الأميركي روبرت دي نيرو، البالغ من العمر الثمانين، بامرأة تصغره بـ38 سنة. وقد أنجبت أخيراً ولداً. وهو الفرق نفسه الذي بين صاحب المؤسّسات الإعلامية الشهير، روبرت مردوخ، وزوجته الخامسة.
التمييز مزدوج في حالة النساء، لأنهن نساء أولاً، ولأنهن متقدّمات في السنّ
ولا تقتصر سعادة الشيخوخة ورفاهيتها على الجوانب الجنسية والعاطفية لأولئك المسنّين من النجوم، ويكثر نظراؤهم في أية بقعةٍ تجد فيها شيخاً نجماً، إنما تمتدّ إلى السياسة، ذاك الإكسير السحري الذي يمنح الحياة الأبدية والشباب الدائم. تجدهم في كامل وظائفهم يقومون. رؤساء، سياسيون.
يتنافس أميركيان على أكبر نفوذ في العالم. الأول، دونالد ترامب، ابن الـ77 عاماً، والثاني، جو بايدن يكبره بثلاث سنوات. وهؤلاء على الأقل رؤساء منتخبون في نظام ديمقراطي. أي إن تقلّدهم المنصب الرفيع ينتهي بنهاية عهدهم. أما الديكتاتوريون، فلا تنتهي مدة شيخوختهم، إلا بإرادة القدر، أو إرادة قاتل يغتالهم. وما عدا ذلك، هم "مستمرّون"، من دون أية عقدة نقص، بل بالتبجيل والتهليل... حتى وفاتهم. كاسترو مثلاً، رئيس كوبا السابق، بقي شاباً حتى عمر الـ92، وكذلك كيم إيل سونغ (كوريا الشمالية) حتى الـ82، ومثله فرانشسكو فرانكو (إسبانيا)... واللائحة طويلة.
وهنا تطرح طبعاً مسالة شيخوخة النساء، التي لا تعوّض، لا عقولهن ولا مخيّلتهم، ولا الطبقة التي ينتمين إليها، إلا قليلاً من آثار شيخوختهن. ولأن أعمارهن أطول من أعمار الرجال، فإن مشكلتهن أوسع انتشاراً. والتمييز مزدوج في حالتهن، لأنهن نساء أولاً، ولأنهن متقدّمات في السنّ. ومع ذلك، بدأت تنمو في السنوات الأخيرة ما يمكن وصفه بـ"الثأر الجنسي". بعضه يمارَس في الخفاء، كما في المجتمعات المحافظة، ولكن جلّه خرج إلى العلَن، وصارَ موضوعاً أدبياً وإعلامياً. هل نعد المقالات والتحقيقات الصحافية، المكتوبة والمرئية، والروايات والأبحاث التي تتطرّق إلى الموضوع؟
يهبّ الكتّاب والمؤثرون والجمعيات في صياغات أدبياتٍ كثيرة، كلها تريد أن تقول للمسنّ إنه يمكنه تجاوز عقبات عمره
والسينما لم تبخل بدورها. فيلمان، وربما أكثر. الأول "نحو الجنوب" بطولة شارلوت ربلينغ، والثاني من بعده "جنّة اسمها الحب" للنمساوي أولْريك سيدل. ولا يفصل بين الأول والثاني إلا سبع سنوات. كبَر في أثنائها عمر المرأة المقْتدرة، الأوروبية أو الأميركية، التي تسافر إلى بلدان فقيرة، أفريقية او أميركية جنوبية أو آسيوية ... تبحث فيها عن شاب يعاملها كأنها ما زالت صبية، يداعبها، يدلّلها، يثني على جمالها ويشْبعها جنسياً. ولمن تابع الفيلمين، والسنوات السبع الفاصلة بينهما، يمكنه ملاحظة أن "عمر" المسنّة، وشكلها وهندامها الخارجي، قد "تطوّرت"، وأصبحت أكثر واقعية. ففي الأول، تكون المسنّة امرأة تلعب دورها الفاتنة شارلوت رامبلينغ، فيما الفيلم الثاني بطلاته مسنّات سمينات، بشعات، ومنطلقات في الآن عينه. علماً أن الفيلمين يشدّدان على أن السعادة الجنسية مدفوعة الثمن لدى أولئك، كما يحصل مع الرجال، شباباً أو مسنّين من الذين يشترون اللذّة الجنسية في أسواقها. وهنا بأثمان تؤمّن معيشة الشاب "الجيغولو" الجذاّب، هو وأفراد عائلته الفقيرة فقراً مدْقعاً. أي إن السينما تلاحق موضوعاً أصبح شائعاً في الدول الغربية، ومعترفاً به. هل نقول عكس الدول الأخرى؟
وهل "تحْسد" مسنّاتنا تلك الدول على تلك "المنحة" الجنسية المُعطاة لنظيراتنا من الغرب؟ إذا أجبنا بنعم، نكون بذلك مع أي نوع من الدعارة السائدة: المرأة تبيع اللذّة بتأجير جسدها، أي الدعارة المعترف بها عالمياً، صمتاً وعلنية. ثم الطفل الذي يبيعها، والمعروفة بالبيدوفيليا. والآن دور الرجال المؤجِّرين أجسادهم، لإرضاء شيخوخة نساء يتوافر الدولار في جيوبهنّ.
أمضى نيلسون مانديلا، بطل الكفاح السلمي ضد الأبارتهايد الجنوب أفريقي، أمضى 26 عاماً من شبابه وبداية شيخوخته في السجن. عندما خرجَ منه، وهو في الـ71، قال: "لم تنتهِ مهمتي بعد خروجي من سجني الطويل. ليس لأنني حقّقت كل ما أريده، ولكن لأنني على يقينٍ بأن مهمّتي الحقيقية بدأت الآن".